تمضي الحياة دقائق وثواني
والناس بين أوائلٍ وثواني
ويظل في ركب الثقافة رائدًا
الفذُّ عبدُ المحسن القحطاني
فمعلمُ الأجيال تاريخ الأُلى
نثروا الزهور بلاغة ومعاني
ما زال يبذل للفنون جهوده
وعطاءَهُ ثرًا بغيرِ تواني
أهدى إلى الرواد أسبوعيةً
تزدانُ بالياقوتِ والمرجانِ
يلقاكَ فيها مشرقًا متألقًا
ومرحبًا بالصحبِ والخلانِ
رُزقَ الفصاحةَ في سلامةِ منطقٍ
وبساطةٍ وسلاسةٍ ببيانِ
فترى الحروفَ بثغرهِ منسابةً
فكأنهنَّ قصائدٌ وأغاني
يا لائميَّ بمدحهِ لا تعتبوا
فجزاءُ ذي الإحسانِ بالإحسانِ
تلك الأبيات المتواضعة كانت مداخلتي في أمسية «الأسبوعية» التي استعرض فيها الناقد المتميز «حسين بافقيه»؛ كتاب مضيفنا الدكتور عبد المحسن القحطاني «بين منزلتين»؛ والكتاب عرض مبتكر شيق لبعض سيرته الذاتية المفعمة بالأحداث العجيبة؛ والمواقف العصيبة؛ التي قيضها الله لأبي خالد لتشكل بداخل هذا اليتيم المغترب لطلب العلم تلك الشخصية المتفردة، التي جمعت بين التمكن العلمي الراسخ؛ والقدرة الإدارية الحاذقة؛ والثقافة الموسوعية الباذخة؛ والعلاقات الاجتماعية الثرة؛ والفصاحة البيانية البليغة؛ والروح الإنسانية المتدفقة.
علاقتي بالأستاذ الدكتور عبد المحسن القحطاني بدأت حميمة من أول لقاء؛ فقد تعرفت على صاحب الأسبوعية قبل أن ألقاه بسنوات؛ حيث كنت مُعلمًا لنجله العزيز «تركي» عندما كان طالبًا بالمرحلة الثانوية؛ وهو الآن ما شاء الله عقيدٌ بالقوات المسلحة (أسأل الله أن يحفظه وأشقاءه البررة لوالدهم الكريم)؛ وقد ذكرت هذه المعلومة لأبي خالد في أول لقاءٍ جمعني به في أولى زياراتي لنادي جدة الأدبي لحضور ندوة عن التعليم كان هو مضيفها؛ ولأن الأرواحَ جنودٌ مجندة ما تعارف منها ائتلف؛ فقد تآلفنا بشكلٍ قد لا يبدو منطقيًا بين عالمٍ علم له مكانته المرموقة في الجامعة وأوساط الفكر والثقافة والأدب؛ وبين تلميذ محبٍ للأدب يتلمس الثقافة والفكر في منابر المعرفة.
ولكن من يقترب من د. عبد المحسن لا يستغرب ذلك فهذا الرجل الفاضل منّ الله عليه بشخصية متواضعة خلوقة ألوفة؛ وجبله على حكمةٍ وحلمٍ وأناه لا تدركها إلا في علاقته مع من يختلف معه، ولأن الشيءَ بالشيء يُذكر أشير إلى أن أحد الإعلاميين كتب عن الأسبوعية في موسمها الأول؛ وعَنوَّن مقاله بتشبيه عبد المحسن القحطاني بحاتم الطائي؛ وعلى ما ذكره المقال من مواطن الكرم والسخاء؛ فإني أزعم أن أرقاها على الإطلاق هو كرمُ الدكتور عبد المحسن بوجهه البشوش وبسمته المشرقة وحميميته الدافقة؛ يُشعر كل ضيفٍ أنه ضيفه الوحيد عنايةً وترحيبًا؛ ويجند أبناءه الكرام ليطوفوا بالضيوف ويستقبلوهم ويباشروهم ليحسنوا ضيافتهم ويكرموا وفادتهم؛ ويُقبل بنفسه على أضيافه ببساطة وتلقائية وسعة صدرٍ وأريحية بدون انتقائية ولا عنصرية ولا تمييز.
قرأتُ عن الدكتور القحطاني مما كتبه العارفون بفضله وخالطوه عن قرب؛ فوجدت من أقوالهم: أنه شخص مسكون بدفء العربية وعبق الأصالة يدهشك بقبساته الذكية وأسلوبه المتميز وله من المداخلات ما يبهرك بسعة أفقه المعرفي فهو يحرضك على متابعته لساعات دون أن تمل لتزداد من ثقافته الراقية جدا يقول عنه البعض إنه الأكاديمي الذي خرج من تقوقعه الجامعي وقاعات التدريس إلى فناء الساحة واخترق كل الحواجز ليتربع على عرش نادي جدة الأدبي بسرعة مذهلة. أنه ناقد كبير وباحث دؤوب يتسم نقده بالروح العلمية الموثقة والنكهة الجميلة الشفافة يوائم بين طرح الأديب الأكاديمي المتخصص والتناول السلس لكثير من القضايا الأدبية والثقافية والفكرية.
أما الأسبوعية.. هذه الأمسية الفريدة.. وُلدت فتية، ونحمد الله أنها كانت عند حسن الظن في العمق والتنوع والجدة والطرافة وحسن التنظيم، ولا أستغرب هذا ومؤسسها عالمٌ أكاديمي وأديبُ أريب له في خدمة العلم والأدب والثقافة باعات وكرس لها من عمره سنوات تُوجت بتوليه إدارة «نادي جدة الأدبي الثقافي»، ومن قبلها عضوية مجلس إدارته ومن قبلهما وبعدهما النشاط الفاعل والحافل في عموم الساحة العلمية والأدبية والثقافية داخل المملكة وخارجها، من بين العديد من الصالونات الأدبية التي أواظب على حضورها؛ تتميز «الأسبوعية» بديمقراطية مضيفها الدكتور عبد المحسن القحطاني؛ فهو على سعة ثقافته يكتفي بكلمته الترحيبية المقتضبة التي يمليها واجب الضيافة، وباستثناء ذلك فهو يكاد لا يتدخل قط في فعاليات الأمسية؛ لا بتوجيه مدير الأمسية ولا بالتعقيب على الضيف ولا باختيار المداخلين أو بتحجيم المداخلات؛ بل هو بحق يعد نفسه واحدًا من الحضور ليس له في المجلس إلا مقعده.
وكما بدأت مقالتي بأبياتٍ متواضعات ألقيتها بين يدي مضيفنا صاحب الأسبوعية في أمسية استعراض كتابه؛ أحب أن أختمها بأبياتٍ أشد تواضعًا؛ ألقيتها في مفتتح الأمسية التي استضافتني فيها «الأسبوعية»؛ لأحاضر عن «الوسطية بين الحقيقة والادعاء»؛ حيث خاطبتُ صاحبها وروادها منشدًا:
لله درك طبت عبد المحسن
حولت دارك منجما للمقتني
فيه الثقافة والعلوم تجمعت
تهدى إلى الأضيافِ صيدَهم الغني
قد كنت أجلس بينكم مستمتعا
بكواكبٍ يبدون كالنجمِ السني
واليوم أكرمني المضيفُ فجئتكم
ببضاعةٍ مزجاة .. تُبرزُ معدني
فتقبَّلوا بذلَ المُقِلِّ لجهده
وترفقوا في النقدِ إن لم يحسنِ
** **
- د. أشرف سالم