من الممكن أن نعتبر مرحلتنا المعاصرة في عالمنا العربي هي مرحلة الحرب الباردة العربية، لأن الحرب الباردة تعقب خفوت الآيديولوجيات، وهذا ما رأيناه في خفوت الآيديولوجيا الشيوعية في الاتحاد السوفيتي التي أتت بعدها الحرب الباردة واستمرت عدة سنوات حتى سقوط جدار برلين، وتفكيك الاتحاد السوفيتي لتعود دولة روسيا إلى حدودها وسيادتها، وعدم التدخل في الدول المجاورة.
الحرب الباردة العربية هي مرحلة صراع الآيديولوجيا مع ما بعد الآيديولوجيا، وتتخذ هذه الصراعات محاولة إثبات الوجود بأي عنصر من العناصر السياسية حتى ولو كانت حجتهم هي الديموقراطية وحرية الاختيار، فمنذ سقوط الإخوان/ مرسي عن حكم مصر والحرب الباردة أخذت حيزًا مهمًا في السياسة العربية، ابتدأت مع قطر، ثم تركيا، وأخيرًا مع إيران، لتدلنا على أن إشكال الآيديولوجيات واحدة وهي محاولة تخطي الدولة إلى قومية الحزب، وهذا ما نجده عند الإخوان، والشيوعية، ونجده حالياً عند حزب الله في لبنان وهو يواجه دولة لبنان والتحذير بمدى قوة جيش حزبه.
لكن الحرب الباردة العربية هي سيماء مهمة لمرحلة نتطلع إليها وهي مرحلة خفوت الآيديولوجيا العربية في عالمنا العربي، حتى يتفرغ السياسيون لتنمية دولهم ومجتمعاتهم بدل أن يهتموا بتنمية آيديولجياتهم على حساب الدولة والمجتمع، العيش في الحرب الباردة العربية ينبئنا أن خفوت الآيديولوجيا آخذٌ في خطوات مهمة نحو تقليص وجودها في عالمنا العربي، مما يفتح المجال لفكر وفلسفة عربية تنحو يمّ العلم التجريبي، وتتطلع إلى ما تتطلع إليه البشرية أجمع في تحسين العيش، واكتشاف الكون، ودعم العلوم التي كان العرب ولا يزالون عالة على غيرهم فيها، بينما انشغلوا في تقاتل بئيس على آيديولوجيات صنعوا منها صنمًا يُعبد.
خفوت الآيديولوجيا يعني أن يتحول الحكم السياسي من القومية العابرة للدولة إلى الدولة ذاتها، ومن الرفيق اليساري في شتى أنحاء العالم إلى المواطن في الدولة، ومن دعم الحزب إلى دعم التكنوقراط البارع في إدارة الوزارة، وهنا يمكن تحقيق الرفاه البشري، عبر إخراج مكنونات الدول العربية من خيرات ليستفيد منها مواطنوها، وهنا يمكن تحويل التفكير عما هو خارج الدولة إلى ما هو داخلها.
هذا الخفوت للآيديولوجيا نذير بالتطلع إلى العلوم التي طورت الغرب وجعلت منه الحاكم الأكبر للكرة الأرضية، فلم يصل الغرب إلى ما وصل إليه بفضل تخطي الدين، أو بفضل براعة عقولهم التي لا يوجد مثلها في العالم العربي، بل وصل إلى تسيّد العالم بسبب أنه وجه بوصلته نحو العلم التجريبي، فيمّم نحو المختبر، نحو الفضاء، نحو الاقتصاد ومن هنا اسطاع أن يبلغ ما بلغه.
** **
- صالح بن سالم