احتاج إلى أخذ صورة من وثيقة تخرجه من المرحلة الجامعية، فاستخرجها من بين أوراقه المهمة، التي ائتمن عليها أحفظ صناديقه، وحفظها كأغلى ما يكنزه الكانزون، وإن كان لا يستأني بها حاجة، أو ينتظر لها طالبًا، فإن هي إلا تاريخ وذكرى، لا يلجئه إليها إلا الحنين، استخرجها وإذا سجله الأكاديمي مقرون بها، فهما صنوان لا يفترقان، وكيف يفترقان، والعلاقة بينهما علاقة تعليل وتفصيل، وتبيين وإجمال، وأحدهما مقدمة، والآخر نتيجة!
وقف مليًّا يتأمل السجل، ويستعرضه مستوى مستوى، ومادة مادة، ويتذكر تلك الصباحات الجميلة التي ينطلق فيها إلى الجامعة عبر الطريق بين عنيزة وبريدة وما يجتاحه من الضباب شتاء، وما يلهبه من حر الشمس صيفًا، كم كانت تلك الصباحات مفعمة بالأمل والشوق والانتظار، والتطلع إلى المستقبل الذي بدا يتضح شيءٌ من معالمه، وتراءت له قاعة الدرس في ذاكرته كما كانت في واقعه، مكانها، ومكانه فيها، والأستاذ الذي درس المادة، والأحوال التي أحاطت، والحوادث التي صاحبت، والزملاء الذين طرؤوا، والآخرون الذين غادروا في هذا المستوى أو ذاك.
ما أجمل تلك الدرجات العالية، وما أنضر تقدير الامتياز مشعًّا زيَّنَ سطور السجل، وكأنه واعظ يحث على الشكر، أو حكيمٌ يذكر بعاقبة الصبر، ولا تخطئ عينه، وهو يتملَّى الامتياز، وإن حاول التجاوز، تلك الدرجة المتدنية، التي لم يستطع السجل منها خلاصًا، فقد بقيت على مر السنين لتظهر الضعف تارة، وتظهر القوة أخرى، حيث لم تقف عثرة، ولم تقتل حلمًا، أو تثن عزمًا.
لقد كان (المقبول) في إحدى المواد غير مقبول في نفسه، وخاصة أن درجة واحدة فقط كانت تفصله عمَّا فوقه، ولكن أمانة الأستاذ ودقة تصحيحه حجبت تلك الدرجة، وأبقت ذلك التقدير المرير.
عَرَف ذلك الأستاذَ أمينًا صادقًا، دقيقًا ضابطًا، لم يخش يومًا منه ظلمًا، ولم يتوقع منه خطأً أو وهمًا، فلا يذكر أنه همَّ بمراجعته في درجته، أو مراجعة الإدارة في تصحيحه، وإنما سلم أمره، ورضي بما قُسم له، وسهَّل ذلك في نفسه أن لم يكن نيل كوامل الدرجات دأبه الذي لا يتنازل عنه.
وما كاد يرفع رأسه عن السجل، ليطويه من بعد نشره، ويعيده إلى مكان حفظه، حتى خطرت له حال ذلك الأستاذ اليوم، وقد تبدل حزمه تسمُّحًا، وقوَّته لينًا، وتغير ميزانه فكان أسمح في الثواب، وأبعد عن العقاب، والنجاح عنده أسهل منالاً، أما التفوق فمن قارب فقد وصل، ومن تناوش فقد نال، فماذا تغيَّر؟
أيستسلم لسوء ظنه، ويطاوع حظ نفسه، ويحمل التغير على وجهه الأسود، فيعزوه إلى لعاعة من الدنيا ينالها بمكافأة ساعة زائدة، أو فصل صيفي، لما تغير النظام وارتبط التحاق الطلاب بالشعب بسمعة الأستاذ، فنأوا عن الدقيق الجاد، والشديد الحازم، وانصرفوا إلى ذي العطاء بلا حدود، يخفف التكاليف، ويختصر المنهج، ويجزي عن القليل جزيلاً، فيظفر بطلاب يملؤون شُعَبه.
أو يحمل ذلك التغير على وجه مشرق، فهو يرى أن الطلاب غير الطلاب، تدنى مستواهم العلمي، وتناقصت فرص الوظيفة، فخفت الحافز، وضعف الدافع، فحدا بالأستاذ إلى تغيير طريقته، وتيسير منهجه، رأفة ورحمة، وتتبعًا للمصلحة العامة، وحرصًا على إدراك بعض الشيء خوفًا من فواته كله!
ولا تكاد النفس تطمئن إلى حسن الظن، وجميل العذر، حتى يأخذها آخذ يقودها إلى إعادة النظر، وإعمال المقارنة والقياس، أفإذا كانت الرحمة من طبع ذلك الأستاذ، والرأفة دأبَهُ، والمصلحة العامة غايته، أفلم ينظر إلى دفعة كانت من خير الدفعات تحصيلاً، وأعلاها في عدد المتفوقين، وإلى طالب مواظب خير مواظبة، ومشارك في قاعة الدرس ومناقش، فيجبر الكسر، ويقربه إلى أقرب التقديرين، ويعتد بمناقشته ومشاركته وحواره، وبما عَرَف من تمكنه من خلالها، فيميزه بسببها، ولا يكتفي بالاختبار التحريري مقياسًا وحيدًا؟!
ويشاء الله تعالى بمنه ألاَّ يطوي سجله، ولا يطوي على سوء صدره، حتى يفتح عليه من حسن الظن، ومن صحة النظر، بابًا واسعًا، فلئن قارن عملاً بعمل، أفينسى مقارنة عمر بعمر، وخبرة بخبرة، ألا يجد فرقًا بين العشرين والخمسين، أفلا تغير الثلاثون القناعات، وتبدل المناهج، وتجلو الرؤى، ومن ذا الذي يا عزَّ لا يتغيَّرُ، وله في نفسه خير شاهد، فكم كان متحمسًا لشيء فخفتت حماسته، وكم كان متيقنًا من نتيجة فخلخلت الأيام يقينه، وبرهنت السنين على خطأ تقديره، وكم قدَّر ما لم يقع، وتوقع فكان ضد ما توقع، أفلا يعذر أستاذه إن غيَّر منهجه في عقود ثلاثة، ويعود إلى سلامة صدره التي نعِم بها من ذلك اليوم إلى يوم نشر السجل!
ما أسرعنا إلى ذم التغير، وتعليله بالمداهنة والطمع، أو الخوف والضعف، أو فساد الدين، أو التنكب عن المبادئ، والتغير سنة، والدهر منجنون بأهله، والثبات لا يمدح إلا إن كان على الحق ، {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم