أجريتُ قبل سنتين تجربتين لغويتين في مناطق بدوية متعددة منها وادي الصفراء، وكان عمود التجربة المشافهة واختبار عشرة نصوص قديمة، فجاءت النتيجة كافية للتأكد من صلة جمهرة المفردات المتداولة في كلام الناس في منابع اللغة في بلادنا بأصولها القديمة، فأنت ترى كثيرًا من الألفاظ التي دونتها المعاجم وكتب الغريب حَيّة مستعملة في كلامهم إلى اليوم. وعند اشتغالي بالفوائت الظنية رأيتُ في بعض ما جمعتُهُ من ألفاظ لهجاتنا الكثير مما كنتُ أحسبه فائتًا ظنيًّا، فإذا هو مرصود في معاجمنا، بلفظه ومعناه، ورأيت أنّ ما وقع في بعض ألفاظه من شوائب كتغيير في صوت أو انحراف في بنية لا يبعده عن أصله ولا يطمس معالمه، وأنّ من السّهل غسله وتنقيته مما أصابه كما تُغسل الجوهرة الساقطة في الوحل.
وأُورد هنا نماذج منه تؤكّد لك أصالة لهجاتنا، فمن ذلك الفعل (ياوي) بمعنى يرفق ويرحم، يرد في مثل قول العامّة: لا تاوي له، أي لا ترفق به، وقولهم في المثل الشّعبي: (المداوي ما ياوي) قد تحسبها عامّيّة، لا أصل لها في الفصاحة، وهي عربيّة على لغة تسهيل الهمز، وأصلها: يأوي، قال زهير بن أبي سلمى:
بان الخليط ولم يأوُوا لمن تركوا
وزوّدوك اشتياقًا أيّةً سلكوا
قال الأعلم في شرحه: (لم يأوُوا) لم يرحموا ولم يرقُّوا. وقال الأزهري: «وفي الحديث: أنّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كان يُخَوِّي في سُجوده حتى كنّا نأوي له».
ونقول في لهجاتنا اليوم في نجد والحجاز: دَلْبَحَ الرجلُ يُدَلْبِح، إذا حَنَى ظهرَه وطَأْطَأَه، وفلان مُدَلْبِح، فيتوهّمها المتوهِّم عامّية مبتذلة لأنها شائعة، وهي عربية، سمعها الأزهري إبّان أسره، ففي التهذيب: «وقال لي صبيٌّ من بني أَسد: دَلْبِحْ؛ أَي: طأطئ ظهرَك، ودَرْبِخْ مثلُه». وللعبودي تعليق لطيف هنا يحسن تأمّله، وهو قوله: «لا يزال بنو قومنا يقولون ذلك، ولو بُعث الأزهري بعد هذا الألْف من السنين الذي انقضى على وفاته، وذهب إلى الأعراب الموجودين في بلادنا الآن، وليس منهم بنو أسد الذين ذكرهم، لسمع من صبيانهم من يقول له مثل هذا القول إذا احتاج المقام إلى ذلك، إلا أنّ ذلك الغلام لن يكون من بني أسد؛ لأنّ بني أسد لا تعرف لهم الآن بقيّة في أعراب نجد».
وسمعتُ أمّي -رحمها الله- حين كنّا في البادية إبّان حكم الملك فيصل تقول: هذه الكلبة مِجْعِل، بكسر الميم، على عادة العامّة يميلون إلى الكسر، وسمعتها من غيرها، ولم أكن أعرف المعنى، فلما كبرتُ عرفتُ أنّ الكلبة المجْعِل هي التي تريد السِّفاد. ثم رأيتها في المعاجم. قال ابن فارس: «كلبةٌ مُجْعِلٌ؛ إذا أَرادَتِ السِّفادَ»، وقال الأصمعيّ في كتاب الشّاء: «ويُقال في السًّبُعةٍ: لَبُؤةٌ مُجْعِل، وقد أَجْعَلَتْ إجْعالاً؛ أي: اسْتَحْرَمَتْ. وأنشد في صفة امرأة:
فأَتَتْكَ مُجْعِلةً بجِرْوٍ واحدِ
والمُجْعِلاتُ يَلِدْنَ غيرَ فُرادى»
ومن ذلك ما أخبرني به الثقة بأنه سمع من بعض كبار السن في وادي ريم قوله عن الشمس: (حتى غابت في كافر) وعَجِبَ من هذا، وعجبتُ منه، ولم أعرف ما الكافر! حتى وجدتُ لبيدًا يذكر الشَّمْس، في قوله:
حَتَّى إذا ألْقَتْ يَدًا في كافِرٍ
وأجنّ عوراتِ الثغورِ ظلامُها
ومثله قول ثعلبة بن صُعَير المازني:
فَتَذَكَّرا ثَقَلاً رَثيداً بَعدَ ما
أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمينَها في كافِرِ
قالوا في تفسيره: الكافر: الليل، لأنه يكفر نورها، أي يغطّيه، وقال ابن فارس: «الكافر: مَغِيبُ الشّمس. ويُقال: بل الكافر: البحر»، و»ما بَعُدَ عن النّاس، لا يكادُ يَنزلُه أو يَمُرُّ به أحدٌ».
ومن أمثلة ذلك قولهم في تهامة الحرمين: ما له سَبَد ولا لَبَد، أو ما يترك سَبَد ولا لَبَد. والاستعمال قديم، وهو مُمعجم، قال الأزهري: «وقولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد، أي: ما له ذو شَعْر ولا ذو وَبَر متلبِّد، ولهذا المَعنى سُمِّيَ المالُ سَبَدًا»، وفي هذا دلالة واضحة على فصاحة البادية، وأنهم يتوارثون لغتهم العربية القديمة ولا يتأثّرون بغيرها، مع أنّ هؤلاء على طريق الحجّ في الحجاز، ولكنه لم يكن ذا أثر في لغتهم، لأنّ مرور الحاجّ عابر، ولا يختلط بالقبائل المتفرقة في جبالها وأوديتها وديارها المتناثرة.
ويقولون في بادية الحجاز ونجد: فلان يحضرم حَضْرَمة، إذا دَمْدَمَ بقول غير مفهوم من الغضب والغيظ، وهي مُمعجمة، قال ابن القطّاع: «الحَضرَمَة: اللحنُ في الكلام وإفساده، وهو أيضًا الخلط، ومنه قولهم شاعر محضرم بالحاء والخاء كأنّه اختلط بالجاهليّة والإسلام».
وفي لهجاتنا في نجد والحجاز: فلان يَتَحَرْقَص، إذا تحرّك من وَجَعٍ أو ضجر الانتظار، كأنّه يتحفّز ويتقبّض. وقال أبو عمرو الشيباني في الجيم: «والتَّحَرْقُص: أن يتقبّض الرجل، أو الدّابّة، من البرد أو الوَجَع».
ويقولون في تهامة وجازان: الشِّجْنة: القبيلة أو القوم الذين ينتمي إليهم الرجل، ومنه قولهم: من أيّ شِجْنة أنت؟ أي: من أيّ قبيلة؟ وما شِجنتك؟ أي ما قبيلتك؟ وفي الصحاح: «يقال: بيني وبينه شِجْنةُ رَحِمٍ وشُجْنَةُ رحمٍ؛ أي: قرابةٌ مشتبكةٌ. وفي الحديث: الرَحِمُ شِجْنَةٌ من الله؛ أي: الرَّحِم مشتقَّة من الرحمن، يعني أنَّها قرابةٌ من الله -عزّ وجلّ- مشتبكة كاشتباك العروق».
ومثل هذا كثير جدًّا يكون في مجلدات لو جمعته، نسمعه في لهجاتنا ونجده في معاجمنا بلفظه ومعناه، وإنّ في احتفاظ المنبعيين به دلالةً صريحة على فصاحة الجمهور الغالب من ألفاظهم، واتصالها الوثيق بأصولها الأولى، ومقاومتها تعاقب الأزمان، فإنْ ضَرَبَ اللحنُ وأثخنَ في النحو وقضى على سليقة الإعراب، فإنّه لم يستطع فعل الشيء نفسه في الألفاظ والمعاني التي قاومته فكانت إلى السلامة أقرب، وبقي أكثرها على حاله الأولى أو قريب منها رغم تعاقب العصور، وأشرت إلى علّة ذلك فيما سبق، وحين نرجع إلى الوراء نجد ابن خلدون (ت 808هـ) يصف حال العربية في القرن الثامن ومطلع القرن التاسع في شمال أفريقيا، بأنه لم يُفقد منها إلا الإعراب فاعتاضوا منه بالتّقديم والتّأخير وبقرائن تدلّ على خصوصيّات المقاصد؛ لأنّ الألفاظ بأعيانها دالّة على المعاني بأعيانها، ويقول: «ولا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النّحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التّحقيق، حيث يزعمون أنّ البلاغة لهذا العهد ذهبت وأنّ اللّسان العربيّ فسد اعتبارًا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب، الّذي يتدارسون قوانينه... وإلّا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتّعبير عن المقاصد والتّعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللّسان وفنونه من النّظم والنّثر موجودة في مخاطباتهم... ولم يفقد من أحوال اللّسان المدوّن إلّا حركات الإعراب في أواخر الكلم». وذهب حمد الجاسر إلى أن لهجات بلادنا السعودية من أقدم اللهجات العربية، وأنها مهد العربية، ودعا إلى العناية بلهجاتها وجمع مفرداتها.
وأقول في الختام: ليس لنا حين نسمع اليوم شيئًا من ألفاظ المنبعيين في بلادنا السعودية ومعانيهم مما أخلّت به معاجمنا القديمة أن نردَّه ونسِمَه بوسم العامّيّة لخلو المعاجم منه، وينبغي لمن ينغمس في صناعة الألفاظ أن يقدم إحسان الظن في كل لفظ منبعي يتناوله مما خلت منه المعاجم حتى يثبت له في أمره شيء أو يستقرّ على رأي، على ضوء ما لديه من معايير. وثقتنا في ألفاظنا كبيرة، وبخاصّة حين يتّسع الأطلس الجغرافي لها، وأنا لست أوّل من فصّحها، فقد سبقني كثيرون لا أحصيهم، ذكرت بعض أقوالهم في الجزء الأوّل من هذا الردّ، يقول الدكتور محمد عيد: «لا ينسب إلى لهجات العصر الجاهلي من التفضيل والتمييز ما تحرم منه اللهجات التي تُنطق الآن بين قبائل الجزيرة العربية التي تقطن الأماكن التي وجدت فيها اللهجات العربية القديمة».
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي