- 1 -
البداية هي المرحلة الأهم في مسيرة الإنسان، وفي مسيرة الكُتّاب والأدباء على نحوٍ خاص، وقد تكون السببَ الأكبر في استمرار التجربة ونضجها، أو تعثرها وموتها.
وأخطر ما في هذه المرحلة حاجة الكاتب فيها إلى عوامل خارجية تعزّز رغبته في الكتابة والنشر، وتمنحه الشعور بالانتماء إلى هذا العالم، خاصة إذا جاءت بدايات الكتابة في مرحلةٍ مبكرة من العمر، يقول الروائي الراحل حنا مينه: « كتبتُ أول مقالة لي وأنا في العشرين من عمري، وأرسلتها من اللاذقية حيث كنت أعمل حلاقاً إلى جريدة الأحرار في بيروت، وأرفقتها برسالة ملتهبة توسلاً إلى رئيس التحرير كي يساعدني على النشر، ولم أنسَ أن أستحلفه بكل عزيز عليه، وحتى بالمرأة التي يهواها قلبه، وبعد أيام وصلت جريدة الأحرار، وكانت بأربع صفحات فقط بسبب أزمة الورق خلال الحرب العالمية الثانية، ووجدتُ في ذيل صفحتها الأولى تنويهاً بمقالتي واعتذاراً عن نشرها؛ لضيق المساحة ووفرة المواد أو أي كلام من مثل هذا، إلا أن المهم كان اسمي الذي وجدته منقوشاً على الورق، وكان ساطعاً فيما خُيّل إليّ، وهذا وحده كافٍ لإبهاجي، لصنع مسرةٍ لي، لبعث الأمل وإنمائه في صدري، بأنّ ما أكتبُ مستقبلاً سيُنشر حين تنتهي الحرب اللعينة ويتوفر الورق في الأسواق (حنا مينه: القصة والدلالة الفكرية، ص111).
ما يشير إليه (مينه) في هذا المقتطف يصلح لأن يكون ملخصاً لبدايات عدد كبير من الكُتّاب، البدايات التي تقوم على ثقة كبيرة بالنفس، ورغبة ملحة في الكتابة والنشر دون تفكير في شرط الكتابة أو شكلها أو قيمتها أو قارئها، لكنها تبحث عن مجال حاضن، وعن رد فعل إيجابي يؤكد الثقة ويمكّن للرغبة، حتى لو طال الانتظار، أو ضاق أفقه، أو انتهى إلى لا شيء!
- 2 -
والطريف هنا أن الكُتّاب المعروفين متفاوتون في تقييمهم لبداياتهم، فمنهم من نفض يديه منها، وعبّر عنها بأسلوبٍ متعالٍ، وخرج منها بنصائح حادة للشباب، غايتها إقناعهم بتأجيل فكرة الكتابة والنشر ما أمكن، والعمل أولاً على إنضاج التجربة بالقراءة الواسعة، والاسترسال في تجربة الحياة.
ومع أهمية ما تطرحه هذه الفئة فإن اهتمامها يتوجه إلى جودة المحتوى لا إلى الرغبة التي يعدها كثيرٌ من الكتّاب أهم ما تحتاجه مرحلة البدايات، بل إن بعضهم يرى أن البداية في الكتابة والنشر لن تتغير كثيراً في حال تأخرها، وستظل مسكونة بطفولة الرغبة، فـ(أمبرتو إيكو) – مثلاً – بدأ الكتابة الأدبية في مرحلة مبكرة جداً، لكنه لم يُقْدِم على النشر الأدبي إلا وهو في الخمسين من عمره حين أصدر روايته (اسم الوردة)، لنتفاجأ به بعد هذا العمر الطويل من القراءة العميقة والتجربة الحياتية الثرية يجيب عن سؤال: (لماذا كتبت روايتك؟) بقوله: «الجواب الوحيد الصحيح هو أنني أحسستُ في لحظةٍ ما من حياتي برغبةٍ في فعل ذلك، ويبدو لي أنه سببٌ كافٍ ومعقول» (إيكو: اعترافات روائي ناشئ، ص22)، وهذه الإجابة من (إيكو) هي ذاتها الإجابة التي يقدمها اليوم كلُّ من أقدم على النشر في مرحلة مبكرة من عمره، وبتجربة أقل بكثير وكثير من مستوى تجربة (إيكو) الفلسفية والفكرية والأدبية حين نشر روايته الأولى!
- 3 -
وفي المقابل ثمة فئة من الكُتّاب حافظت على علاقة وجدانية ببداياتها، ودافعت عن خطواتها الأولى حتى مع إقرارها بالضعف والتشتّت، فنجيب محفوظ – مثلاً – ظل يعبر عن أهمية بداياته المتعددة مع موقفه النقدي منها، وربما يكون من أكثر الأدباء تعبيراً عن أهمية ما لقيه من نقد احتفائي على امتداد تجربته الأدبية، حتى لو كان هذا الاحتفاء شفهياً وعابراً.
هذه الفئة تؤمن بأهمية البداية، وتضعها في مكانها المناسب من التجربة، وتبدو على قناعة كبيرة بأن لها الفضلَ الكبير في استمرار التجربة ونضجها، وهو ما نجده لدى طه حسين أيضاً لكن بشكل غير مباشر، يقول عبدالرشيد محمودي: «إن موقف طه حسين من كتاباته المبكرة لا يخلو من المفارقة، فقد حجبها عن الناس وأراد لهم أن ينسوها، ولكنه احتفظ لها بمكان أمين في ذاكرته الخارقة، وظل طيلة حياته يستلهمها سراً، أو ينقدها ضمناً» (محمودي: الكتابات الأولى، ص13).
- 4 -
لقد خرجتُ من قراءة عدد كبير من شهادات الكتّاب والأدباء والمؤلفين بأهمية البداية (الفعلية)، بأهميتها لتمكين الرغبة وإغناء الشغف، بأهميتها في خلق رد فعلٍ يعمّق ثقة الكاتب المبتدئ بنفسه، ويعطيه مسوغاً للمراكمة والتطوير.
ومع قناعتي التامة بأن لكل كتابة شرطها الفكري والفني فإنني أنصح كلَّ من يجد لديه رغبة في الكتابة أن يكتب، وأن يثري كتابته ما أمكن، وأن يُقْدِمَ على النشر أيضاً، وستكون الفرصة أمامه واسعة لإنضاج المحاولة إن هو أراد، ومن خيارات النضج المتاحة له التوقف عن الاستمرار بعد قناعته بفقر الموهبة أو ضعف الأداة!
لقد كتب طه حسين في بداياته الشعر ونشره، وكلنا نعرفه اليوم ناقداً ومفكراً، ونعرف كل شيء في حياته إلا ذلك الشعر، وقد ساعدنا هو على تجاهله..
نجيب محفوظ أيضاً تأثر مبكراً بـ (الأيام) لطه حسين، وقرر محاكاتها فكتب سيرته الذاتية قبل أن يبلغ العشرين وسماها (الأعوام)، وكلنا نعرف نجيب محفوظ ونعرف كل شيء في حياته لكننا نجهل تلك السيرة، وقد ساعدنا هو على تجاهلها!
لا مسوغ إذن للتردّد، ولا معنى للتفكير في الطيران قبل المشي..
اكتبوا، واستمروا في الكتابة، وانشروا، ثم ابنوا على هذه التجربة، والطُرُق أمامكم مفتوحة للسير في جميع الاتجاهات، بما في ذلك طريق العودة، وتذكروا أن تأجيل الكتابة والنشر في البدايات قد لا يكون في صالح الرغبة ولا في صالح الشغف، ولا شيء يمكن أن يسدّ مكانهما !
يقول والتر موزلي: «لا أستطيع التفكير في سببٍ يمنعني من الكتابة، ربما يكون أحدها ألا يشتري أحدٌ كتبي، وحتى هذا السبب عندما أفكر فيه لا يمنعني من الكتابة» (لماذا نكتب؟ ص221).
** **
- د. خالد الرفاعي