أ.د.عثمان بن صالح العامر
من مزايا ديننا الإسلامي الحنيف أنه لا يقدس الأشخاص أياً كانوا، ويرفض إطراءهم وتمجيدهم وإنزالهم فوق المنزلة التي وضعهم الله فيها، فهم جميعاً بلا استثناء (عبيد الله)، لا يعلمون الغيب، بشر وليسوا ملائكة يسبحون ويقدسون الرب طوال لحظات ليلهم ونهارهم، يخطئون ويصيبون، ليس لهم عصمة من ذلك إلا من عصم الله، لا يستطيعون نفع أحد أو ضره، أحياء كانوا فضلاً عن أن يكونوا أمواتاً، ولا أدل على ذلك من أن محمد بن عبد الله - خير البشرية قاطبة منذ آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة، رسول الله إلى الناس عامة، خاتم النبيين والمرسلين أجمع، وأفضلهم على الإطلاق - حذر معتنقي هذا الدين الخالد، قائلاً بصريح العبارة التي لا تحتمل الشك أو التأويل (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أن عبده، فقولوا عبد الله ورسوله)، ولذلك لم يرتبط التقويم - الذي اختاره عمر بن الخطاب تقويماً إسلامياً مستقلاً - بميلاده عليه الصلاة والسلام، ولا حتى بوفاته، بل جعل الفاروق رضي الله عنه حدث الهجرة الذي هو الحد الفاصل بين مرحلتين لهذا الدين (المكية) و(المدنية) هو العام الأول في تقويم المسلمين.
إن الإسلام فكرة وليس أشخاصًا، والهجرة انتقال جماعي لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن أمن معه من أجل فكرة اعتنقتها عن قناعة كاملة ويقين تام بأنها الحق الذي لا مرية فيه ولا نقاش أو جدال، في المقابل لم يتقبلها أهل مكة خاصة المتنفذين فيها وأصحاب القرار ورجال المال والأعمال وذي الجاه والسلطان - كما هو معلوم - الذين راحوا يهددون ويتوعدون، بل يعذبون ويطردون. ولكونه كذلك فقد طالب الإسلام أتباعه أن تكون المرجعية عندهم ذاتية (القناعة العقلية المطلقة بهذا الدين)، ولَم يسمح بإيمان المقلد منهم إلا العاجز عن معرفة الدليل، الجاهل بمقاصد وغايات الإسلام الكبرى. ولا يعني ذلك التقليل من شأن العلماء أو الإنقاص من قدرهم -لا سمح الله، فهم من يخشى الله عز وجل، ورثة الأنبياء، ينيرون للناس الطريق، ويرسمون معالمه، ويذودون عن حياضه، ويدافعون عن حماه، ويبينون الثابت والمتغير، المطلق والمقيد، الخاص والعام، المحكم والمتشابه، الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك، ومع كل ما ذكر فإن دورهم في باب النص يتوقف عند حد محاولة فهم مراد الله من النص، وليس ما يجزمون به هو عين مراد الله يكتسب العصمة والتقديس المطلق كحال النص تماماً -كما هو معلوم - ولذلك كان الاختلاف واقعًا بينهم منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وحتى اليوم وإلى قيام الساعة، ومن هذا الباب كان قول مالك بن أنس -رحمه الله- (كل يؤخذ من كلامه وبرد إلا صاحب هذا القبر)، هذا طبعًا في المسائل الفقهية الاجتهادية التي تحتمل هذا الأمر خلاف المسائل العقدية التي لا خلاف فيها بين أهل السنة والجماعة.
لقد امتن الله عز وجل على هذا (الإنسان) المخلوق المكرم في ميزان الله عز وجل بالعقل وجعله مناط التكليف وسر التمييز، ولذا فأنت ممن منحك الرب سبحانه وتعالى هذه الملكة العظيمة مسئول عن حمل هذه الفكرة ومطالب بالتعلق بها دون أن تمنح غيرك حق التفكير المطلق عنك، وتكسوه من صيغ التعظيم والتبجيل ما يجعل دينك رهين بالشخصنة التي تتعارض مع دين الفكرة سواء أكانت شخصنة شخصية ذاتية، أو شخصنة جماعية حزبية، مع واجب الاحتفاظ للسلف الصالح بما هو حق لهم معلوم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دمتم بأنس وسعادة، ودام الوطن الغالي المملكة العربية السعودية عزيزاً شامخاً منتشياً مفتخراً بقادته الأفذاذ وعلمائه الربانيين وجنوده الأبطال ورجاله المخلصين، وإلى لقاء والسلام.