أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: نشأت في مدينة (شقراء) في طفولتي، وكانت تجربتي مع الكتاب شيئاً يُبكي ويضحك في آنٍ واحد، فليس من مكتبة تكاد تذكر في (شقراء)، وقد اشتريت آنذاك سيرة عنترة بن شداد، ثم تطورت (شقراء)، فأصبحت المكتبات فيها على قسمين: مكتبات عصرية، وكتب يبيعها أشخاص، وأذكر أنني اقتنيت أول طبعة من تاريخ الطبري، كما كان يأتينا بعض النسخ من مجلة الرسالة المصرية، وكنت أتابع ما يكتبه الزيات أو يترجمه رحمه الله في هذه المجلة، وكان والدي يسدد عني في كثير من الأحيان، ديوني من شراء الكتب.
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ أعظم ما كان يشغلني حفظ الكتب المنهجية، أما ما يجذبني فكانت الكتب التي خارج إطار المنهاج الدراسي، ومن الكتب التي أعجبتني موضوعاً وأسلوباً كتاب (طوق الحمامة) للإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، وقد شدَّني كثيراً هذا الكتاب فكراً وجمال أسلوب في آخر المرحلة الابتدائية.. ودرست في المعهد العلمي، وفي الجامعة اخترت كلية اللغة العربية، لحبي للعربية، ولكن أبي رفض ذلك بشدة، واختار لي كلية الشريعة بجامعة الإمام، ولست اليوم نادماً على ذلك، وفي الرياض كنت أساعد أبي، أكتب خطابات حتى أحصل على ست أو سبع ريالات، وكان بيتنا صغيراً لا يزيد في مساحته عن سبعين متراً، بعد يسر حالة أبي اشترى لي كتاب (زاد المعاد) مع أنه كان يتاجر في (حراج ابن قاسم)، وبعد تخرجي من الجامعة سابقت على وظيفة، ونجحت.. وأذكر بعد ذلك أنني اشتريتُ كتاب (المدونة) لابن مالك بحوالي (300) ريال، وهو مبلغٌ ضخم جداً في تلك الأيام مقارنة مع راتبي المحدود، ولعل شحَّ الكتاب ولَّد عندي نهماً في اقتنائه، سواء في الفقه، أو في الفكر، أو الأدب، ترقبتُ لقراءة كتاب (المحلّى)، ثم (أحكام الأحكام) لابن حزم الظاهري، كما قرأت على عدة مشايخ منهم محمد بن داوود رحمه الله تعالى، وكان لدي متعة فكرية وجمالية وشعورية بما أقرأ.. والحق أنَّ هناك أناساً يوصفون بحسن التأليف ومنهم (الشافعي، والطبري، وابن حزم) رحمهم الله تعالى، ولا شك أن الكتب قد كثرت عندي حتى كنت أضعها في بساط، وأبيع وأشتري، ثم أذهب فأنتقي ما أريد، وزادت الكتب عندي لاحقاً، وفيها صور مخطوطات قديمة، صورتُ بلاداً كثيرة من المغرب والمشرق: (القاهرة، دمشق، إسبانيا)، ولدي طبعات نادرة لكثير من الكتب، عرضت كتبي للبيع أكثر من مرة، ومنها لمكتبة الملك عبد العزيز؛ فقال الملك عبدالله: (مكتبتك تبقى لك وهذه أربعمائة ألف ريال لك).. ومكتبتي دوران، فيها كتب في الطب، وفي الزراعة، وعلم النفس، والفقه، والتفسير، والحديث، والتراجم، والفقه المقارن، وكتب ابن جرير الطبري، وابن عبد البر، والشافعي، وابن المنذر، وابن قدامة أبقيتها لدي، وكذلك فيما يستجد من العلوم الحديثة، وكتب النقد والبلاغة والأدب الأصيل.
قال أبو عبدالرحمن: جنح بي الإمام ابن حزم الظاهري في الفكر الأصولي العقدي، وقد أخذت منه الإحساس الجمالي، والتنوع الثقافي، كنت أحفظ القرآن الكريم، وأصلي في الناس الفرض والقيام، لكن تدرجت بي الحال فيما بعد خمسة عشر عاماً من أديب إلى فنان، فعوقبت بأن نسّيت القرآن الكريم الذي كنت أحفظه، لقد كنت في حالة ظلم لنفسي، اعترفت بتقصيري، ودعوت الله بالهداية، وألح على ربي بالدعاء، فالقرآن لا يمكن أن أهجره، وأذكر قديماً كنت في العراق، كنا نسير من بغداد إلى الحلَّة رفعت رأسي إلى السماء ودعوت ربي: يا أكرم الأكرمين لا تختم لي مفرطاً، فأنا أخشى من هول المواجهة.. الله يعلم تقصيري، ولكن لدي خشية عظيمة من الله.. اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ثم رأيت أن أنقطع عن سمر الأدباء والفنانين شيئاً فشيئاً.
قال أبو عبدالرحمن: وللإمام ابن حزم رحمه الله تعالى دورٌ كبير في تكوني وثقافتي لقد ربّى عقلي على الحرية، والبحث، وتقليب المسائل، ولكن تظل هذه الحرية حرية منضبطة، ولا شك أنني كنت أنقبض من آراء له غير صحيحة حسب ما أظن، لقد جعل الإمام ابن حزم العقل حاكماً في كثير من الأحيان، ولكنه حاكم، ومحكوم بالشرع، وتلقى العلم من مصادره مهم جداً، ومن خلال (ابن حزم، وابن تيمية، والجويني، والغزالي)، وغيرهم تكوّنت عندي رؤى فكرية، ومع ذلك فقد انتقلت إلى عالم واسع من الفلسفات، فوجدت أن الأولى هو الاهتمام بنظرية المعرفة البشرية، قرأت كتب (ديكارت) وأعجبني التحليل الفكري بملكاته وحواسه، وبحثت كثيراً في التقاط العقل لهذه المعرفة، إذ يلتقطها في تصوره مجزأة ليودعها في الذاكرة، والأمثلة المادية على ذلك كثيرة منها أن تسمع صوت الأسد، أو الحصان، فهذا يجعل تصورك لهما يختلف حسب الصوت، لأن ملكة المفارقة لديك تعمل في الذاكرة.. وإن كان الملاحدة لا يؤمنون إلا بشيء مجرّب، أي بالتجربة المادية الحسية؛ فنحن بحاجة أن نعود إلى الأصل كي نسأل: من أوجد الكون غير الله؟! وليس من تفسير لهذا الكون العامر إلا بخالق أعظم وأكبر هو الله، وهنا لابد من التلازم بين أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، فأسماؤه وصفاته دالة على الكمال المطلق متنزهة عن النقص.. ولطفه في الخلق، لطف في عدله، وتقديره، ويظل العقل الإنساني مناط التكليف الشرعي، ما دام يدرك، ويفكر، ويعرف، فإن فقد الإنسان عقله، سقط التكليف.
قال أبو عبدالرحمن: لقد وجدتُ ضالتي، ونفسي، وشخصيتي في المعرفة الشرعية، وحتى تكون معرفة صحيحة راشدة ينبغي أن تهتدي بالنص الشرعي الصحيح (أي بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم) وتسير على منهجه، وأن يفهم النص فهما صحيحاً للحكم على الحادثة أو الخبر، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -