البيوت سكن الإنسان، يأوي إليها بعد تعب ونصب، يلتقي فيها بوالديه وإخوانه، أو زوجته وأبنائه، وغيرهم فيأنس بهم، ويجد فيها سعادته فما أجدر به أن يملأها بالحب والخير والراحة، وأجمل من يملأها بذلك هم أحباب الله، أطفالنا، فلذات أكبادنا، فنجد أن من أولويات العرسان الجدد الإنجاب.
هم دعامتها وقواعدها وأوتادها وعروشها، بهم تبقى البيوت، وبهم يقوى الميثاق الغليظ بإذن الحافظ الحفيظ.
إنهم زينة الحياة الدنيا وبهجتها الذين نضيق ذرعاً بإزعاجهم وصراخهم، وما أن ترتفع درجة حرارة أحدهم ننسى كل ما اقترفوه، ونأخذهم مسرعين إلى أقرب مستشفى، وتسهر الأم تراقب درجة حرارته كأن على رأسها الطير!
هؤلاء المزعجون يقلبون الدنيا رأساً على عقب في أزقتها وشوارعها، وما أن يضيع أحدهم حتى نشمر عن سواعدنا بحثاً عنهم، ولو دخلوا جحر ضب خرب دخلناه! وإذا جاعوا نؤثرهم على أنفسنا ولو كان بنا خصاصة، وحتى لو مسنا الضر! وإذا مات أحدهم تخيم الأحزان علينا، ونتوهم وجودهم معنا، وقد تبيض أعيننا من الحزن، وننادي في هزيع الليل: «رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين».
يا إلهي.. كم يساوي طفل مريض يرقد على السرير الأبيض عند والديه! وكم يساوي طفل مات أمام مرأى أعينهما! وكم يساوي طفل مفقود عندهما في ليل بهيم! وكم يساوي طفل مسجون اقترف جرماً شنيعاً يُنتظر الحكم عليه أمام القضاء في فؤادهما! وكم يساوي طفل لمتزوج عقيم!
إنه يساوي الكثير الكثير، لا يُبخس ولا يُقدر بثمن، يساوي الحياة بحلوها ومرها، وعسلها وحنظلها، ونشعر بذلك حين يغيب أطفالنا عنا لساعات أو أيام، وتخلو البيوت منهم نشعر بسكون كئيب موحش!
كم نتأفف من طلباتهم ورغباتهم وضجيجهم وإزعاجهم ولعبهم وصراخهم، وإذا وهنت العظام، واشتعلت الرؤوس شيباً، يبتعدون عنا، يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، فنشتاق لشقاوتهم، وإزعاجهم وأكاذيبهم البيضاء، وعراكهم مع بعضهم. قال الشاعر عمر بهاء الدين الأميري:
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم- ويح اليوم- قد ذهبوا
ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهم
في القلب ما شطوا وما قربوا
لندعهم يملؤون بيوتنا صخباً وفوضى وجعجعةً لكن بقدر معلوم حتى تستقر حياتنا معهم وتسعد بهم، وتتأسس على تقوى من الله ومحبة، ومن دونهم لا حياة فيها، تكون خاوية على عروشها.