د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
لقد يسَّر الله بفضله فكتبتُ عن جماعة من العلماء, وعدد من النبلاء, ولم أكن حينها أخطط للكتابة أو أتكلفها, بل كانت العاطفة تسوقني وتستمطر الذكريات حتى أرى مقالاً قائماً بين يديَّ, وصار بعض من حولي يتلمس أثراً, ويطلب خبراً عمن سأكتب, بل قال أحدهم: مات فلان, فهل كتبتَ عنه؟ فأقول: لا! وأرسل إليَّ أحد الفضلاء رسالة لعلنا نقرأ مقالاً عن فلان! فأَبُتُّها له أني لا أدري متى أكتب ولا عمن أكتب, فالعاطفة هنا هي القائدة, فإذا كان المقال خالياً عن العاطفة وُلِد خِداجاً ناقصاً بل ربما كان ميتاً!
وكأني أحياناً بالقلم الذي أكتب به تتحرك فيه روح!
وربما تخيَّلتُ أنه يشاطرني حزن الكتابة وهمَّ الحرف عن أولئك الأفذاذ التي قادة العاطفة زمام الأمر فيه؟!
بل ربما أدركتني شفقة على القلم من قوة الضغط عليه إمساكاً به لاستيلاد الكلمات, فتخرج أحرفها رويداً رويداً من سيلانه وصريره!
فهل كان للهيجان العاطفي وقوة الإمساك به أثر في تخيُّل أنه يشتكي؟!
حتى أتذكر من ذلك الخيال شكوى جواد عنترة بن شداد العبسي حين أخبر عنه عنترة بقوله:
فازورَّ عَن وَقْعِ القَنا بلبَانِهِ
وشَكَا إليَّ بِعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
أكتب هذه الأحرف بعد عودتي من بقعة هي من المذكِّرات بالآخرة «مقبرة النسيم».
عدت وبين جنبيَّ من الحسرة والألم ما الله عالم به, حقيقة إني لمفؤود بفقد الرجال الصالحين, وموجَع بموتهم, ومتأثِّر بذهابهم, لا على أنهم تركوا الدار الفانية, ولقوا ربنا الكريم! بل للنقص الذي دخل علينا بذهابهم, فكل ما مات أحد الصالحين دخل النقص, وكلما مات أحد العلماء حدث النقص, قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}, قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ذهاب علمائها، وفقهائها، وخيار أهلها», وقال عطاء رحمه الله: «ذهاب فقهائها وخيار أهلها», قال ابن عبدالبر رحمه الله: (قول عطاء في تأويل الآية حسن جداً، تلقاه أهل العلم بالقبول).
أكتب هذا بعد أن أُهيل التُّرب في جَدَثٍ ضم رجلاً نادراً في زماننا, قد امتلأ اتزاناً وعقلاً ولطفاً, وفاض حباً وإحساناً وعطفاً, كان هيِّناً ليِّناً كريماً, هو قدوة في خُلُقه, فالمروءة تمشي في ركابه, كان ملئ العين كما كان ملئ إهابه.
لا أدخل مدينة حائل إلا قصدته, متعلماً بين يديه, متطلعاً إلى حديثه, مستفيداً من خبرته, وأهم ذلك كله كسبي لدعائه وقياماً بحقه, فإني أحسبه والله حسيبه من عباد الله الصالحين, الذين يمشون على الأرض هوناً, ولا يبغون فيها علواً.
كنتُ كلما زرتُه زادت محبتي له, كنتُ أمشي معه من بيته إلى مسجده, ومن مسجده إلى بيته, يمسك بيدي! يحادثني مرة ويدعو مرة حتى نصل المسجد أو البيت, ما أطيب مجلسه, وما ألذَّ ابتسامته ضَحِكَه, وقور, حليم, طيِّب المعشر, حلو الشمائل, جميل المؤانسة, تلقى في محياه الصلاح والصدق والنزاهة, مسارع إلى الطاعة, مبادر إلى الصلاة.
كان يحب استماع الوعظ بعد الصلوات, طلب مني إلقاء كلمة بعد الصلاة في أول لقاء لي به, فقلت له: أمثلي يعظ مثلكم! فيلقي كلمة بين يديكم! بل أنا أحوج إلى ذلك منكم, رفع الله قدركم, وما جئتُ إلا لأستمع إليكم, فيقول: (أَلق يا شيخ محمد, وأبشر بالأجر من الله, والدعاء من الناس, فربما قال أحدهم بعد الكلمة: جزاك الله خيراً, فاستجاب الله دعاءه), فكنتُ لا أتردد بعدها, بل كنتُ إذا قدمتُ عليه استأذنته في أن ألقي كلمة فيقول: جزاك الله خيراً, ويظل يدعو ويشكر, حرَّمه الله على النار وجمعه ووالدينا بنبيه صلى الله عليه وسلم في الفردوس.
وَكُلُّ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ رَأيْتُهَا
سِوَى فُرْقةِ الأحْبَابِ هَيْنَةَ الخَطْبِ
كان مجلسه بين العشاءين مجلس علم وتعليم, تُقرأ عليه الكتب ويستمع لها بإنصات, وهذه طريقته منذ سنين, ومن تواضعه الجم وكرمه الكبير إخباره لي أنه قد قُرِئت عليه بعض ما ألفته من كتب ورسائل, وما أظنه أخبرني بذلك إلا تشجيعاً وطلباً للمزيد, جزاه الله عني خير الجزاء.
تولّى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
كنتُ في مجلسه رحمه الله إحدى المرات ولم يكن ثمة أحد غيرنا, فذكر الشيخ سعد الحصين وذلك بعد وفاته بسنوات رحمه الله, فأكثر من الدعاء له, وسألني عن أهله وأولاده؟ فقلت: بخير وعافية, فقال: أنا أعرف والد زوجته رحمه الله, ثم أردف بالسؤال عنها؟ فقلت: هي بخير, وذكرتُ له أنها أهدت إليَّ مشلحاً شتوياً وهو في حلة جديدة مما خلَّفه الشيخ رحمه الله, وقالت لولديها «طارق وياسر»: هذا يُهدى لمحمد الفريح, فهو من أحب الناس إلى أبينا رحمه الله, فأبوكم كان يفرح به كثيراً, فابعثوا بهذا إليه, فلما سَمِعَ هذه العبارات بكى حتى رأيتُ دمعه -رحمه الله- بلغ لحيته, ثم قال: سبحان الله ما أبرَّها بزوجها حتى بعد وفاته! وما أحسن وفاءها له لأصحابه! وصار يتعجب من فعلها, فقلت له: إني أتعمد لبس ذلك المشلح في عدد من المناسبات, وأخبر من حضرها, بأن هذا كان للشيخ سعد الحصين رحمه الله, أهدته إليَّ زوجه أم طارق جزاها الله خيراً, فيلجّ المجلس بالدعاء للشيخ.
كان رحمه الله يحب الشيخ سعد الحصين, وأشهد أن الشيخ سعد كان يحبه رحمهما الله وجمعهما في أعلى جنانه.
أذكر أني زرته في فصل الشتاء, فكانت النار مُشْعَلة في مجلسه, وما أطيبه من مجلس, فلما جلس في مكانه المعتاد توجهتُ إلى المكان الذي بجواره فأمرني بالجلوس أمامه؛ ليكون الموقَد بيننا, فأنشدته:
متى تأتهِ تعشُو إلى ضوءِ نارِه
تجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ موقدِ
ومرة أخرى كنتُ عنده فخبت النارُ فأمر ابنه ببعثها, فقلت: يكفى جمرها والأذان قد قرب رحمكم الله, فقال: لا يا شيخ محمد ألا ترى أنها بدأت في الرماد, فلا بد من إحيائها ثم أعاده أمره لابنه, فقلت له: أحسن الله إليك بمناسبة ذكر الرماد مرَّ بي أن القاضي أبا بكر ابن العربي المالكي صاحب أحكام القرآن رحمه الله, يقول: دخل عليَّ الأديب ابن صارة وبين يديَّ نار علاها رماد، فقلتُ له: قلْ في هذه، فقال:
شابتْ نواصي النار بعد سوادها
وتسترت عنَّا بثوب رماد
ثم قال لي: أجز، فقلت:
شابتْ كما شبنا وزال شبابنا
فكأنَّما كنَّا على ميعاد
سألته عن الشيخ القاضي عبدالله السليمان السديس رحمه الله, فقال: نِعْم الرجل رحمه الله, زوَّجني ابنته جزاه الله خيراً, وقد تولى القضاء في عفيف ثم في الخاصرة, ذهب في بداية شبابه إلى الرياض للدراسة على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله, وله صلة وثيقة بالشيخ عبدالله الوابل رحمه الله, ثم بعد تقاعده من القضاء استقر في البكيرية, وأخبرني أنه ربما حملق بعينيه وحَدَقَ بهما على الخصمين فيصطلحان!
أذكر أنه كان لدي موعد لإلقاء محاضرة في حائل بجامع المهاوش في حي المطار مغرب يوم الأربعاء الموافق 5 - 4 - 1440هـ, فقلت للمشايخ القائمين على أمر المحاضرة: سأنهي المحاضرة قبل العشاء بوقت إن شاء الله, فعندي ارتباط مهم, فألقيتُها بفضل الله, وخرجتُ ميمماً وجهي إلى منزل شيخنا رحمه الله, وقد كان عنده خبر بأني آتٍ إليه, فكان ينتظرني, فدخلت مجلسه, وجلستُ جواره, فدار الحديث قليلاً ثم التفت إليَّ ومال بجسمه قليلاً إلى جهتي, فانحرفتُ بجسمي إليه توقيراً له ولفعله, وقد خلا المجلس من هامس غيرنا, فقال: يا شيخ محمد حديث: «يُزَيِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالْأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ» هل هو حديث صحيح؟ فرفعتُ بصري إلى عينيه, وقد تنازعت عباراتي وعبراتي, فكتمتُ الثانية! وقد جال في خاطري أشياء كثيرة من سؤاله, فقلت: ولم السؤال شيخنا؟ فقال: لا أكتمك سراً كلما مرَّ بي يوم ازداد ثقل أعضائي, وكلما كبر الإنسان ضَعُفتْ قواه, فصار للوضوء مئونة! والذهاب إلى المسجد له مئونة! وبعض الأعمال فيها كُلفة, فقلت: أبشر شيخنا فمثلكم تحركه همته, وتقوده روحه, وإن تعب الجسد في تحقيق ذلك, ولا شك أن الدنيا سجن المؤمن, وأن الأجر على قدر النصب, وأن المشقة تجلب التيسير, وأن الدنيا دار تعب ونكد وكبد, وأن الرجل الصالح تُدركه الغُربة في دينه, وكلما كبر ازدادت غربته من جهات عدة, وينكر حالته وصحته وجسده, ويختلف عليه أبناء الزمان, فهو يصابر ذلك كله, حتى يلقى ربه وقد ألقى عنه المئونة والأذى والنصب, وتبشره الملائكة بكل خير, فابتسم رحمه الله, وقال: جزاكم الله خيراً، ثم قلت له: أما الحديث فإنه لم يصح سنده إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم, بل هو حديث ضعيف. خرجت من عنده وأنا أتأمل قوله وحاله رحمه الله, لم تشغله الدنيا ولا أهلها بل شغله ألا يقصِّر عن العبادات, ولا يتأخر عما كان يفعله من المسابقة إليها, هنيئاً لي بمعرفته, ورفع الله في الجنة نُزُله ومنزلته, وكانت هذه الزيارة آخر رؤيتي له في الدنيا رحمه الله.
ذلكم هو الشيخ الجليل العابد الزاهد أبو عبدالله علي بن عبدالله بن محمد السديس, أخبرني رحمه الله أنه ولد في البكيرية عام 1355هـ, درس في الكتاتيب في بداية أمره, ثم دخل المدرسة الابتدائية عام 1367هـ, ثم المعهد العلمي في الرياض ثم كلية الشريعة وتخرج فيها 1379هـ.
درس على كبار العلماء الذين يعلِّمون في المعهد وفي الكلية, كسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز, والشيخ محمد الأمين الشنقيطي, وقد أهداه كتابه «أضواء البيان», والشيخ عبدالرزاق عفيفي وغيرهم رحمهم الله, وكان من زملائه سماحة شيخنا صالح بن محمد اللحيدان, وشيخنا عبدالمحسن العباد.
قال لي: بعد التخرج عينتُ ملازماً قضائياً عام 1380هـ في مدينة جدة, فمكثتُ في الملازمة سنتين, فقلت له: لماذا اخترتم جدة دون غيرها؟ فقال: لم يكن لنا اختيار, وكانت جدة بحاجة إلى قضاة في ذلك الوقت فدفعوا بنا إلى محكمتها.
ثم صدر التوجيه بعد الملازمة بأن يذهب إلى محكمة نجران, ولم يطل المكث هناك, فصدر الأمر بعد مدة يسيرة بأن يكون قاضياً في محكمة حائل عام 1382هـ وقد تولى رئاستها فترة من الزمان, واستمر في قضاء مدينة حائل إلى عام 1414هـ, ثم صدر تعيينه قاضياً في محكمة التمييز بمكة, فبقي حتى بلغ سن التقاعد 1425هـ, وبعد التقاعد رجع إلى حائل مستقراً فيها.
أمضى في سلك القضاء خمسة وأربعين عاماً, سألته: هل نُقِضَ لكم حكم؟ فقال: مرة واحدة لا غير, فقلت: تذكر القضية؟ قال: نعم, كنتُ حكمتُ في القضية أنها قتل خطأ, لكن المشايخ في التمييز رأوا أنه شبه عمد.
أصابته جلطة, فنقل إلى الرياض, وبقي في المستشفى مدة ثم قُبضتْ روحه غفر الله له ورحمه الله عصر الخميس الموافق 15 - 3 - 1443هـ.
وصلي عليه في جامع الراجحي بعد صلاة الجمعة الموافق 16 - 3 - 1443 من الهجرة النبوية.
خلَّف ذكراً حسناً, ورجالاً فضلاء, وأزعم أن كل من جلس إليه وعرفه أحبه رحمه الله.
تخَالف النَّاس إِلَّا فِي محبته
كَأَنَّمَا بَينهم فِي حبه رحم
فأحسن الله عزاء الجميع فيه, وغفر له ولوالدينا وأهلينا وذرياتنا ومشايخنا ومن له حق علينا, اللهم لا تحرمنا أجره, ولا تفتنا بعده, واغفر لنا وله, و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء