الحديث عن الأحساء ذو شجون لا يُمل ولا يُكل، هي من البلاد التي دانت للرسول صلى الله عليه وسلم حين وفد وفد بني عبد القيس إلى المدينة المنورة وأسلموا على يديه طائعين غير مكرهين ولا موتورين، ثم بنوا مسجد جواثا أول مسجد صليت فيه الجمعة بعد المسجد النبوي الشريف.
كانت الدول المتعاقبة في شبه الجزيرة العربية تحرص على ضم الأحساء إليها، وهي من أوائل المحافظات التي ضمها الملك عبد العزيز لدولته.
لقد قيض الله للأحساء كثيراً من الباحثين المهتمين بتاريخها وتراثها، كتبوا عنها الكثير، ولا يزالون يخرجون كنوزها لنا، ويخلدون علماءها وشيوخها، منهم محبها وعاشق نخليها وفرجانها وسوابيطها وسككها وبيوتها الطينية، المولود في سكة العلوي في فريج الرفعة الشمالية في عام 1389. ترعرع في فريج الرفعة الشمالية، ومشى بين سككه، وتطاير على رأسه غبارها، ومر تحت سوابيطه، وشرب من آباره فأحب الحي حباً جماً، وهام به إلى حد الجنون، لا يضاهيه حب قيس لليلى!
كم أسكرته فرحة انتقاله إلى بيت والده الجديد في حي الفاضلية في عام 1400 لكن قلبه لا يزال متعلقاً بالفريج الذي عاش فيه بدايات عمره، ولعب فيه مع أقرانه من عوائل شتى، مثل: الحرز والفهيد والبراهيم والحجي والهودار وغيرها. ومع كر الأيام والسنين أغض مضجعه رحيل بعض الطيبين عن الفريج من تلك البيوت التي تتضوع برائحة كأنها المسك حين نزول الغيث، وتأجيرها على العمالة الأجنبية، وأنها بعدهم ستكون خاوية على عروشها، وأن ذكريات الأمس ستكون نسياً منسياً. فقدحت في ذهنه فكرة أن يصور صلاة الجمعة للشيخ عبد الوهاب بن سعود الغريري وصلاة العيدين بإمامته، فاستعار كاميرا من أحد أصدقائه في عام 1410، لكنه لا يعرف استخدامها، وبالإرادة حقق مراده!
حينها أعجبته الفكرة فبدأ بتصوير مقاطع فيديو مع كبار السن من الفريج، يتحدثون فيها عن ذكرياتهم وعن الحياة القديمة، وكيف عاشوا، فتجمعت عنده عشرات الأفلام الوثائقية القصيرة، وحين ولد اليوتيوب أنشأ قناة بثها فيها.
كان محباً للعلم فنماه بالمطالعة عن تاريخ الأحساء، وجمع وصور كثيراً من مخطوطاتها وصكوكها مما جعله متفوقاً في دراسته لعلم المحاسبة في جامعة الملك فيصل وبعد تخرجه في عام 1412 عين معيداً في الكلية التقنية بالأحساء، ثم شد رحاله إلى جامعة الملك سعود لدراسة الماجستير، فتخرج منها متفوقاً في عام 1421. لكن لغة الأرقام والقوائم المالية لم تمنعاه من مواصلة شغفه في البحث عن تاريخ الأحساء ورجالاتها، فزاحم الباحثين وطلاب العلم بالركب ينهل من علوم العلماء والمشايخ. وعقد معهم جلسات علمية مطولة مغلقة خاصة مع شيخ المؤرخين جواد بن حسين الرمضان، فكتب كتاب «أمالي الرمضان بقلم سلمان». ووثق بعض جلساته العامة العلمية في كتاب «جلسات الرمضان». وكذلك سبر ذاكرة الأديب محمد بن حسين الرمضان في جلسات مطولة في كتابه «غيض من فيض». وأيضا سبر ذاكرة الشيخ يوسف الشقاق في كتاب «بني معن وما جاورها». وعقد جلسات علمية مطولة مع الراوية علي بن عبد الوهاب المرزوق جمعها في سفره «أمالي الراوية علي بن عبد الوهاب المرزوق». وهو أول من ألف كتاباً كاملاً عن الشيخ محمد الهاجري.
إنه مهووس بتدوين سير الشخصيات الناجحة الأحسائية بكل تخصصاتها؛ لنستفيد من تجاربها، فنثرها في أسفار شتى، مثل: «أعلام وشخصيات ناجحة» و»آباء وأجداد» و»شخصيات ناجحة» و»هكذا وجدتهم» ووصل عدد مؤلفاته إلى أكثر من 12 مؤلفاً.
عاشق فريج الرفعة الشمالية لا يكل من التنقيب عن الوثائق التاريخية والصكوك التي تخص الفريج، فكتب عنه كتابين ضخمين قيد الطباعة قريباً، بذل فيهما الغالي والنفيس من المال والجهد مع الوقت الذي استغرق في البحث والاستقصاء وإجراء المقابلات مع المعنيين والتدوين عشر سنوات، وهما أغلى جواهره كما قال: الأول «أعلام وشخصيات من الرفعة الشمالية» والثاني «سكك فريج الرفعة الشمالية بالأحساء».
تساءلت ما الذي دعاه لتأليفهما مع عدم تعاون بعض الناس، وبخلهم بالمعلومات وتشكيكهم في سمو نواياه خاصة حين يسألهم عن تسلسل أنساب نسائهم الراحلات خاصة، وعدم وعيهم بأهمية توثيقها، وهدفه ربطهم بأنسابهم الذين يجهلونهم؛ ليصلوا أرحامهم من خلال ما يكتبه في ظل عدم اهتمام كثير من الناس بالقراءة! إنه الشغف بالعلم والكتاب وخدمة المجتمع.
عاشق الفريج اجتماعي من الطراز الأول، متواصل مع الناس في أفراحهم وأحزانهم لذا رشح نفسه في أول انتخابات بلدية في عام 2005 وفاز فيها بحبهم وببرنامج عملي واقعي من دون ولائم أو بهرجة إعلامية أو مخيمات، ولثقة المسؤولين به مددوا له سنتين، وقد وثق هذه التجربة في كتابين الأول «من تجربتي في المجلس البلدي» والثاني» توثيق التجربة».
وكذلك يتواصل مع الناس إلكترونياً في أهم تطبيقات التواصل الاجتماعي بحد معقول لا ليقول: «ها أنا ذا» بل ليفيد الناس ثقافياً وتراثياًَ وتاريخياً.
يحن دائماً إلى مرابع صباه في الفريج، له ذكريات لا يستطيع الفكاك عنها، لا ينساها مهما طال عمره، تتبعه أينما سار، فيسير خلفها أينما سارت مأخوذاً بجمالها وبراءتها وطيبتها. يعيش الفريج في قلبه ووجدانه، لا يكاد يمر أسبوع إلا ويمر بين سككه ويكحل ناظريه برؤية بيوته الطينية التي، يشم منها عبق الماضي. يتذكر رجاله الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، لكن أكثرهم غادروه إلى أحياء جديدة، يقف على أطلاله المهدمة، يتأمل بيوته الخاوية على عروشها ويشير إلى مواقع كانت في أعوام مضت ملء السمع والبصر، فيخاطب نفسه: هنا مر الشيخ الخطيب أحمد صالح الطويل، في هذا المسجد صلى الشيخ عبد الوهاب الغريري، هنا حسينية السماعيل، هنا دوغة الشهيب، في هذه البراحة لعبت مع أصدقائي، هذا ساباط أم هاشم، وفي هذا البيت ولد الشيخ علي بن فايز الحجي، ثم يرجع البصر كرتين، فيرى بيوتاً تراثية جميلة تسكنها عمالة أجنبية فيتحسر عليها، ويتمنى لو تنتبه إليها أمانة الأحساء أو وزارة السياحة، فتجعلها مزارات سياحية قبل أن تتحول إلى أكوام رماد فتندثر معالم من خلالها نستطيع إعادة كتابة تاريخ الفريج الذي كان من أهم خمسة أحياء أو محلات عُرفت بها الهفوف قبل مئات السنين كما جاء في كتاب تحفة المستفيد لمحمد بن عبد الله آل عبد القادر. إنها ذكريات الماضي وتاريخه التي ننطلق منها نحو مستقبل مشرق، وأن «اللي ما له أول ما له تالي».
من الفريج تعلم أشياء جميلة أهمها مقدار الحب والترابط والتكاتف والتعاون والمعاملة الطيبة والتواصل الاجتماعي بين أهله، وعمق حبهم لشعائر الدين، وحضورهم الدائم لصلاة الجمعة والجماعة، وانسجامهم مع جيرانهم أهل السُنة والجماعة كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحب والاهتمام.
هو كاتب بهيج، كتب سيرة الفريج بحب ومزاج، من دون تهويل أو إزعاج، روى حكايته بدون رتوش من داخل المكان لا من خارجه كما روى إدوارد سعيد سيرته ممزوجة بسيرة المدن التي عاش فيها في كتابه» خارج المكان». شاهد على تحولاته على مدى قرن كامل، مدين للفريج الذي أعطاه الكثير من الحب والقيم والمعارف، فقابلها بالقليل كما يقول.
هو للفريج لسان بيان، وذاكرة مكان، وشاهد عيان، وذاكرة زمان، ولمنابر مساجده ومواقعه قلم توثيق وتدوين وتبيين. آمن بأنه لم يخلق للبقاء، فصنع لروحه أثراً للبقاء وبصم بصمات ناصعات ستبقى بعد عمر مديد يقضيه بطاعة الرحمن، ثم بمحبته لأخيه الإنسان في زمن النسيان والنكران.
هو ناشط اجتماعي، سيرته الذاتية حافلة بالعطاءات والإنجازات لوطن الخيرات، فمتى نراه يخرجها كاملة؛ لنستفيد من تجاربه.
إنه الأستاذ سلمان بن حسين بن محمد الحجي، مربي الأجيال، معلم الأبطال، الذي أتمنى أن نتعاون معه في إكمال مسيرة توثيق تاريخ الأحساء وأبنائها.