د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ حظر النفط عام 1973م اتخذت المملكة قرارًا استراتيجيًا بعدم تسييس هذه السلعة، وقبلت بمسؤوليتها تجاه استقرار السوق العالمي للطاقة بما يحقق مصلحة المنتجين والمستهلكين. وبالتوازي مع القرار السعودي، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قرارات استراتيجية لضمان عدم الاعتماد على دول الشرق الأوسط، إلى جانب خطوات أخرى في مجال الإنتاج والسياسات. الإجراءات الأمريكية التي أعقبت حظر النفط خفضت الواردات الأمريكية من نفط الشرق الأوسط إلى نحو 9 % حاليًا.
تقليل الاعتماد على نفط أوبك لم يقلل من أهمية نفط الخليج العربي عند الأمريكيين حيث صرح الرئيس جيمي كارتر لاحقًا بالقول: «إن أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر بمثابة هجوم على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية. وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية». ومنذئذ حدثت متغيرات كثيرة لدرجة أن أهم وكبرى المنشآت النفطية السعودية ضربت بصواريخ إيرانية وتوقف نصف الإنتاج السعودي عام 2019م، ولم يحرك الرئيس ترامب حينذاك ساكنًا سوى دعوته بمزيد من الدفع لتوفير الحماية، وهذا يتنافى مع الالتزام الأمريكي المبدئي.
أسعار النفط ترتفع، وعودة الحياة إلى طبيعتها قبل جائحة كورونا ستحلّق بأسعار النفط عاليًا، ولن يتمكن أحد من كبح جماحها فالأمر يتعلق بالعرض والطلب. أمريكا تعاني من متلازمة السياسات المتناقضة، ويعلم صناع القرار أن الوضع معقد وأنه لا مجال لاحتواء الأسعار في القريب المنظور، ولذلك يلجؤون إلى شماعة أوبك لتحميلها المسؤولية. وبعيدًا عن تصريحات السياسيين فإن ارتفاع أسعار النفط ذو تأثير متعارض المسارات على الاقتصاد الأمريكي؛ إذ يمكن أن تؤدي أسعار النفط المرتفعة إلى خلق فرص العمل والاستثمار في النفط الصخري عالي التكلفة، لكنها في الوقت ذاته تؤثر على الشركات والمستهلكين بسبب ارتفاع تكاليف النقل والتصنيع. هذه المهمة المستحيلة تفاقم عجز الإدارة الأمريكية عن التفكير في دعم حلول محلية حيث لا يزال إنتاج أمريكا من النفط أقل من ذروته بنحو مليوني برميل يوميًا، وبمجرد أن تضيء إدارة بايدن الإشارة الخضراء للمزيد من الإنتاج، ورفع القيود عن المنتجين فإن ذلك سيرشد الارتفاعات المتسارعة لأسعار النفط.
وفي حين تتزايد مطالب المختصين في مجال الطاقة وجماعات الضغط الخاصة بهذا القطاع الضخم في أمريكا، ويضاعف النواب الجمهوريون الضغط على الإدارة الديمقراطية، فإن الإدارة الحالية لا تبدو متحمسة لدعم صناعة النفط الأمريكية لتلبية هذا الطلب المتزايد على النفط، وبدلاً من ذلك تعمل على تسليم السيطرة الكاملة على سوق النفط العالمية إلى أوبك حيث لجأ بايدن بالفعل إلى مناشدة منتجي أوبك زيادة الإمدادات على الرغم من أنه يحكم دولة من كبرى الدول المنتجة للنفط والغاز في العالم.
لوم المملكة العربية السعودية لأنها لم تعمل على زيادة الإنتاج يمكن تفهمه على أساس الصداقة الاستراتيجية بين البلدين، ولكن تنصل الإدارة الأمريكية من التزاماتها تجاه المملكة يجرد اللوم والعتب من منطقهما. وإذا كانت المملكة قد قادت حظر النفط عام 1973م من أجل العرب فإنها بدون شك ستكون أكثر تشددًا في المحافظة على مصالحها في أسعار النفط المرتفعة لأن الموضوع له علاقة بشعبها ومسيرتها التنموية. ومثلما أدى حظر النفط إلى مراجعات سياسية واقتصادية فإن تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن أصدقائها يلزمهم بسن سياسات واتباع إجراءات تخفف من الاعتماد على الصديق المتقلب.
لقد تمكن الرئيس نيكسون وفريقه من العمل مع السعوديين عن قرب لتجاوز أزمة النفط عام 1973م، وبدلاً من الخسائر والمصاعب التي تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية تم الاتفاق على بيع النفط السعودي بالدولار وإيداعه في المركزي الأمريكي، وبذلك تمتع الدولار بهذه القوة التي هو عليها اليوم، وبدعم سعودي خالص. وكما كانت المملكة العربية السعودية من أبرز المؤيدين لحظر عام 1973، بالنسبة للعديد من الأمريكيين، ونظر إليها على أنها ألحقت «الكثير من الألم» بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد أثبتت العقود الخمسة الماضية أنها واحدة من أهم أصدقاء أمريكا في المنطقة، وداخل أوبك، وعملت على ضخ النفط بمستويات عالية للحفاظ على استقرار الأسواق العالمية وتعويض انخفاض أو غياب إنتاج دول مثل العراق وإيران ونيجيريا وليبيا.
إذا كانت الإدارة الأمريكية تريد أن تحل مشكلتها فهي تعرف ماذا عليها أن تفعل، والرئيس بايدن يعي جيدًا أن لا محالة من إجراء «ذلك الاتصال»، ولكن متى؟ الديمقراطيون لا يريدون لأزمة النفط أن تفقدهم الانتخابات النصفية عام 2022م. والسعودية لا تلقن أحدًا دروسًا، ولا تلوي أذرع الأصدقاء، ولكنها أيضًا تتعامل منذ عقود طويلة مع تعقيدات سوق النفط، ولها تحالفاتها، وتعي جيدًا حساسية هذه السلعة للمنتج والمستهلك، وعلى الإدارة الديمقراطية أن تتحلى بقدر من الواقعية.