اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من المعروف أن معرفة الشيء هي الطريق الصحيح للتعامل معه ووضعه على المحك، واختيار الشخص المناسب في المكان المناسب يحتاج إلى معرفة دقيقة عن الشخص الذي سوف يشغل المكان من جهة، والمكان المناسب له من جهة ثانية، والملاءمة بين الإنسان والمكان الذي يوضع فيه والمنصب الذي يشغله، تعد مسؤولية قيادية، تستدعي من القائد معرفة أتباعه في حدود ما تسمح به النظرة الفردية والنظرة الجماعية مع القدرة على المفاضلة وتحديد الفروق الفردية بين كل شخص وآخر على ضوء المعايير الأخلاقية للمهنة ومعرفة القدرات والإمكانات والاطلاع على التخصصات وقياس المستويات، وقد قيل عن المعرفة: بأنها كنز ثمين وملك عظيم وذهب كريم وسلاح ذو حدين، قاطع ورادع، وقال عنها الشاعر:
إذا خلا المرء من فهم ومعرفة
ظلمت نفسك أن تدعوه إنساناً
وإذا ما نظرنا إلى مبادئ القيادة فإن المبادئ الثلاثة الأولى التي تصدرت هذه المبادئ انطلقت من منطلق واحد هو منطلق المعرفة الذي يؤكد على أهمية معرفة النفس والعمل والمرؤوسين بالنسبة للقائد، حيث إن المعرفة تمثل ركيزة أساسية من ركائز السلطة ودعامة من دعائمها، ومعرفة النفس مقدمة على غيرها، وبفضلها يسوس القائد نفسه ويتأهل لسياسة غيره، وقد قال الشاعر:
ومَنْ جهلت نفسه قدره
يرى غيره منه ما لا يرى
كما أن معرفة المهنة تشكل سلسلة متداخلة الحلقات من العلوم والمعارف التي يعزز بعضها بعضاً في سبيل اتقان المهنة واحترافها، وبالتالي الوصول إلى تحقيق أهدافها والإلمام بها من جميع أطرافها.
وتزداد قيمة القائد المعنوية بازدياد معلوماته واتساع معرفته وتطويره لذاته في مجال القيادة وعلى صعيد المهنة، وهو أمر يعد بالنسبة له ضرورة حتمية وقضية إخلاص وشرف، حيث إن القيادة تعد فناً صعباً بسبب تعامل القائد مع الطبيعة البشرية وعلاقة القيادة بالأخلاق وما يتعلق بها من الأمور التي يصعب فهمها وتختلط فيها الأوراق، وقد قال نابليون: إن القيام بمهنة لا نتقنها خداع وسرقة واحتيال.
ومعرفة المرؤوسين هي المعرفة المحورية التي يستطيع القائد من خلالها التعامل مع المرؤوسين على مختلف مشاربهم ومذاهبهم على نحو يتكيف مع الطبيعة البشرية ويراعي الفروق الفردية، وهذه المعرفة بشقيها الفردي والجماعي هي المفتاح إلى ما بعدها، وفقاً للأولويات التي تفرضها سلسلة القيادة وتدرج المراجع داخل المنظومة القيادية التي بموجبها تتحدد أهمية المواقع واختيار المؤهل لشغلها طبقاً لمفهوم اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب مع تركيز النظرة الفردية على القادة الأدنى والمساعدين الذين ينظر القائد من خلالهم، وهم بدورهم يعملون الشيء نفسه مع اتباعهم.
ومما لا شك فيه أن الربط بين الموقع الوظيفي وشخصية الذي يشغله يخضع للكثير من العوامل المتداخلة والتوازنات ذات الدقة المتناهية، والحساسية العالية التي يتحكم فيها التأثير المتبادل بين الإنسان المسؤول والمكان المشغول على ضوء ما يعنيه المفهوم الذي يركز على مبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وانعكاس تأثير شخصية الذي يشغل الموقع على الموقع نفسه والمواقع ذات الصلة، وقد قيل: إن ولاية المرء ثوبه فإن قصر عري منه وإن طال عثر فيه، وقد قال آخر: إنما الولاية أنثى تصغر وتكبر بواليها، ومطيه تحسن وتقبح بممتطيها.
وهذا المفهوم لا يؤمن به رجل السياسة الذي تبرر غايته وسيلته، ويغلب على ممارسته الخبث والمكر، جاعلاً شغله الشاغل التمسك بالمفهوم غير الأخلاقي الذي هو فن تحقيق الممكن، وقد قال الشاعر:
يجر سياسيٌ عليها خصومة
ويدرك ديني بهن المطالبا
كما أن مفهوم السلطة هو الآخر لا يهتم بالمفهوم الأخلاقي الذي يدعو إلى اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب لأن الطامع في السلطة يرى في هذا المفهوم عائقاً يحول بينه وبين المنصب الذي يتطلع إليه ويستميت في سبيله.
وعندما ننتقل من المفهوم السياسي ومفهوم السلطة إلى مفهوم البيروقراطية ونظرتها تجاه مفهوم الشخص المناسب في المكان المناسب نجد أن البيروقراطية ذات مفهوم إجرائي نمطي تتحكم فيه الإجراءات النمطية والتعليمات الرتيبة التي تقتل المواهب والكفاءات، وتحارب التطوير والتغيير، الأمر الذي يجعلها تتفاعل مع الموقع والشخص الذي يشغله بصورة أنانية ذات نظرة مصلحية ضيقة، تسيطر عليها الأثرة وحب الذات من جهة، والسلبية وعدم المبالاة تجاه المصلحة العامة من جهة أخرى.
وعلى ضوء المفاهيم السابقة يتضح لنا أن المفهوم القيادي هو المفهوم الأخلاقي الذي يراعي الأخذ بمفهوم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب مع ضبط التوازن بين طرفي المعادلة بالشكل الذي يحسب للأمور حسابها ويضعها في نصابها بفضل فهم القائد لعمله ومعرفته لاتباعه وحسن الاختيار المبني على ولاء وتخصص وكفاءة المرؤوس وفهم طبيعة الموقع الملائم له.
والقائد المطبوع هو من يمتلك من المعرفة والحصافة والثقة بالنفس والمرونة ما يساعده على معرفة الأكثر أهلية وكفاءة من المرؤوسين لشغل المناصب واختيارهم للعمل في الأماكن المناسبة لهم التي يستطيعون من خلالها المساهمة في نجاح الوحدة والنهوض بها، مؤكداً قوة نفوذه وتأثيره في أداء واجباته القيادية وإنجاز مهامه الوظيفية، وقد قال توماس جيفرسون أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية: أعظم واجب للقائد هو أن يكون واجبه الرئيس أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وقال الفرنسي الملقب بأمير الدبلوماسية: القائد الناجح ليس هو المنهمك في معرفة الأغبياء؟ وإنما يكون منهمكاً في معرفة من هم الأذكياء؟
والواقع أن خدمة المصلحة العامة تتطلب من كل قائد أن يحترم هذا المفهوم الأخلاقي الذي يدعو إلى وضع كل شخص في مكانه لأن من شغل منصباً يتفق مع قدراته وإمكاناته تمكن من تأدية الواجبات وإنجاز المهام التي تؤدي إلى النجاح وتحقيق أهداف المنظمة أو الوحدة، وعلى العكس من ذلك فإن الذي يُطلب منه القيام بعمل لا يناسبه تخونه خبرته ويفشل في مهمته مع الأخذ في الحسبان إن إجراء بعض التعديل المحدود والتبديل الطفيف في المهمة قد يرفع من مستوى الأداء ويجعل من المنفذ العادي منفذاً جيداً.
وقد ضرب لنا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلاً يحتذى في الاستشارة والاختيار عندما استشار أصحابه بشأن من هو الشخص المناسب لشغل أحد المناصب، قائلاً لأصحابه: أشيروا عليّ ودلوني على رجل استعمله في أمر قد دهمني، فقولوا ما عندكم، فإنني أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كان كأنه واحد منهم، فقالوا نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد الحارثي فأحضره وولاه ووفق في ذلك إيما توفيق.