الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تُعَدُّ مشكلة الفقر من المشكلات التي تهدد المجتمعات على كل المستويات والأصعدة في الدولة والأفراد، والإسلام عمل على محاربة الفقر والتصدي له، وإيجاد الحلول لمواجهته، وإيقاف تمدده وزحفه.
وأمام المتغيرات الحديثة المتسارعة في ارتفاع نسبة البطالة، وغلاء الأسعار والمعيشة تزايدت نسبة الفقر في المجتمع مما يتطلب تقديم الحلول الكفيلة باتباع منهج الإسلام في رعاية الفقراء، والعمل على إرشادهم إلى الأعمال الصالحة والتنافس فيها، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
كانت تلك التساؤلات التي طرحتها «الجزيرة» على عدد من المتخصصين في العلوم الشرعية، وكانت إجاباتهم على النحو التالي:
درجات الفقر
يؤكد الدكتور عبدالله بن محمد الطيار عضو الإفتاء بمنطقة القصيم أن مشكلة الفقر من أهم المشاكل التي تواجه الإنسان، والتي يفر منها كل شخص خشية الوقوع فيها، والفقر يختلف من بيئة لأخرى، ومن بلد لبلد، ومن زمن لزمن، وكذا تتفاوت درجات الفقر، والفقير هو الذي لا يملك ما يكفيه من مال مع تقييد هذا بعدم القدرة على الكسب.
وقبل الخوض في علاج هذه المشكلة، ينبغي التنويه عن بعض أسباب الفقر، ولعل أبرزها وأهمها المعاصي، والانحراف العقدي، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، كما أن الفقر قد يكون اختبارًا من الله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، ومشكلة الفقر ليست وليدة هذا الزمن، وإنما كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عالجها الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم بأمور منها:
أولًا: تشجيع المسلمين على مزاولة الأعمال، وبعضَ المهن والصناعات، كما كان يفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين أَعْطَوا القدوة والمثل الأعلى في العمل والكسب الحلال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبي الله داود: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ تعالى كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، وقد ضرب صلى الله عليه وسلم المثل في ذلك فكان يرعى الغنم، ويُتاجر بأموال خديجة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ». فقال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ».
ثانيًا: تنظيم المعاملات بين الناس، وتحريم ما من شأنه أن يؤدي إلى الفقر أو أكل حقوق الناس كتحريم الربا، فهو يعوق التنمية، ويُسَبِّب التخلُّف، ويَزِيد الفقير فقرًا؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»، وذكر منها: (وأكل الربا).
ثالثًا: تشريع الزكاة، التي هي حق معلوم للفقير في مال الغني بشروط معينة، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ، والزكاة تمحو الثالوث المخيف في المجتمع وهو، الفقر والجهل والمرض، فبها ينال الفقير حظه من مال الغني، فيستلّ هذا المال ما عسى أن يكون في قلبه من غل أو حقد على الغني، والزكاة في الإسلام ضمان لأمن المجتمع، وعلاج جذري للفقر والحاجة، وتعتبر الزكاة، والصدقات الاختيارية، وكفالة الموسرين من الأقارب من أهم وسائل علاج مشكلة الفقر، وزكاة الأموال هي أداة لإعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء.
رابعًا: الصدقات، والحث على كفالة الأرامل واليتامى والمساكين، وتفقدهم، وخاصة من الأقارب، قال صلى الله عليه وسلم: (السّاعي على الأرملةِ، والمسْكينِ، كالمجاهدِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصَّدقةُ على المسكينِ صدقةٌ وعلى القريبِ صدقتان صدقةٌ وصِلةٌ).
خامسًا: النفقة الواجبة: وهي التي أوجبها الإسلام على الشخص تجاه الآخرين، كنفقة الزوج على زوجته وأبنائه، قال تعالى: وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مسْتَخْلَفِينَ فِيه)، وقال سبحانه: {وَآتُوهُم من مالِ اللهِ الذِي آتَاكُمْ}.
سادسًا: الأسباب الشرعية للرزق كالدعاء، والاستغفار، قال تعالى: قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}، وقد استعاذ رسول الله من الفقر، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ إني أعوذُ بك من الكُفرِ والفَقرِ).
العمل الشريف
ويقول الدكتور محمد بن عبدالله الصواط أستاذ الدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى بأنه يمكن تحقيق ذلك من خلال الآتي:
أولًا: الاقتصاد وعدم الإسراف (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
ثانيًا: المبادرة إلى العمل الشريف أيًا كان، وخصوصاً الحرف التي تشتد إليها حاجة المجتمع، يقول عليه السلام: (لأن يأخذ أحدُكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها فيكفَّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو منعوه)؛ أخرجه البخاري.
ثالثًا: التكافل الاجتماعي، عن طريق الزكوات والصدقات والأوقاف.
منهج فريد
ويشير الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود سابقاً أن التفاوت بين الناس في الأرزاق والمواهب وتحصيل المكاسب أمر واقع طارئ يحتاج في شرع الله إلى علاج، وللإسلام منهج فريد في رعاية الفقراء، والاهتمام بهم، من شتى الجوانب الاجتماعية والفكرية والنفسية والاقتصادية، ومما يبين رعاية الإسلام للفقراء ما جاء من النصوص الشرعية التي تدعو إلى الحث على مجالسة الفقراء وملاطفتهم ومجاورتهم، والدعاء لهم، ولم تقتصر رعاية الإسلام للفقراء على الترغيب في مجالستهم وملاطفتهم، ولكن الإسلام حرص على مساعدتهم مالياً، ورعايتهم اجتماعياً، حتى تسد حاجتهم، وتكون لديهم الكفاية، وجعل مساعدتهم من مصارف الزكاة، ومن الأسهم الثمانية التي جعل الإسلام الزكاة فيها، ورعاية الإسلام للفقراء تمتد من الجانب المادي إلى أن تصل إلى الجانب المعنوي؛ فمن خلال النظر في النصوص الشرعية نلمس أن التشريع الحكيم يراعي نفسية الفقراء، وعدم إيذائهم وإهانة مشاعرهم، ويتضح ذلك من خلال تحريم المن والأذى عند إخراج الزكاة، وإعطاء الصدقة للفقير، ومما يدل على رعاية الإسلام للفقراء أنه عوضهم ببعض الأعمال الصالحة التي يقومون بها فيما مقابل ما يعجزون عنه بسبب فقرهم كالصدقات والوقف، والمجاهدة بالمال، وهذا التنوع في العبادات يعوض الفقراء، ويفتح به باب الحسنات لهم حتى لا يتميز عنهم الأغنياء.
وفي رواية مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة رضي -الله عنه- أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذلك؟ قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، قال: أبوصالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون وينفقون حزنوا على عجزهم عن ذلك، وتأسفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه، وشكوا ذلك إلى النبي، فدلهم النبي على عمل، إن أخذوا به أدركوا من سبقهم، ولم يدركم أحد بعدهم، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، وهو التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وهذا يدل على أن الذِكر أفضل الأعمال، وأنه أفضل من الجهاد والصدقة والعتق وغير ذلك.