يظن البعض أن حالة العمى تسبب لصاحبها نظرة سوداوية عن العالم وعن الأشخاص المحيطين، بينما يظهر الواقع خلاف ذلك، فكثير من المكفوفين يتمتعون بروح الدعابة وخفة الظل والنكتة، يظهرونها إما بأسلوب لفظي يربطونه بحالة العمى، أو يقومون بتصرفات مضحكة لمشاغبة من حولهم.
مثال ذلك: يستخدم بعض المكفوفين الجواب لسؤال: هل رأيت كذا وكذا؟ فيكون جوابهم: نعم رأيته بأم عيني هاتين.
ومنهم من يقوم بتغيير مكان أشياء يمتلكها زميله الكفيف الآخر ليضلله، ومنهم من يغير صوته عند المحادثات الهاتفية إما بالتقليد أو بتغيير نبرات الصوت لإيقاع مقالب بمن يتصلون بهم.
وهذا النوع من المرح وصورة النكتة يجتمع عليها مكفوفو العالم العربي والغربي، لكون المرح صفة مرتبطة بالشخصية وليست بحالة العمى.
وقد أورث لنا تراثنا العربي صوراً طريفة كان أبطالها من المكفوفين من خلال كتاب (نكث الهميان في نكت العميان)، سرد لنا المؤلف صلاح الدين الصفدي 764 هـ، مجموعة من المواقف المضحكة التي يمر بها المكفوفون..
وهذه الصور لم تتغير عما يواجهه المكفوفون في عالمنا المعاصر، فهي تعيد نفسها ولكن بأسلوب مختلف.
ولعلي أصور لكم في هذه المقالة بعضاً من المواقف المرحة التي تعرض لها المكفوفون في عالمنا المعاصر.
يقول كفيف: دخلت وزوجتي المبصرة السينما، وعندما انتصفت مدة العرض، قلت لها: يبدو أنني لا أرى الفيلم جيداً، أجابتني ضاحكةً ماذا ترى؟ قلت: نستبدل المقاعد.
يروي كفيف قصته قائلاً: استقللت وزوجتي الكفيفة سيارة أجرة من المطار في وقت متأخر من الليل وذلك إلى بيتنا الواقع في أطراف المدينة، أخبرت السائق عن الوجهة، وبدأت أتحدث مع زوجتي عما تم أثناء رحلتنا الموفقة، وبعد أن اقتربنا من جهة بيتنا، أخذنا نوجه السائق بالاتجاه إلى اليمين ونحن مستمرون في الحديث والضحك، ثم طلبت منه الانعطاف قرب محل معين، ثم أكملت زوجتي توجيهه بالاتجاه إلى اليسار،كل ذلك ونحن منهمكان في الحديث والضحك.
التفت لنا السائق وهو في غاية الدهشة! كيف أوصلتموني إلى هذا المكان المظلم وأنتما لا تبصران الطريق؟ هل تتعاملان مع السحر؟
هنا ضحكنا بصوت مرتفع لقوله، وقلنا له نعم. أخذ يتمتم مع نفسه ولسان حاله يقول: ما الذي أوقعني بيد هؤلاء المشعوذين. وحال وصولنا إلى وجهتنا، أخبرناه بأننا نستخدم نظام التجوال (GPS) الناطق، وكنا نسمع التوجيهات من خلال سماعات الأذن أثناء سير السيارة. ضحك السائق وتأسف لنا ولم يأخذ الأجرة.
يروي كفيف: ركبت سيارة أجرة من حي البديعة بالعاصمة الرياض، باتجاه حي الجرادية في وسط المدينة. وبعد أن حييت السائق وكان من الجنسية الآسيوية، قلت له: الجرادية صديق.كانت المدة في العادة لا تتجاوز 15 دقيقة في فترة الذروة، وأثناء انشغالي بهموم العمل والحياة أحسست بأن المدة طالت وأننا في مكان غريب تقل فيه الحركة المرورية، فلما استعلمت من السائق عن مكاننا، أجاب: هذا مكان الجنادرية صديق، وين أنت يبغى؟
والجنادرية تبعد عن وجهتي حوالي 35 كم.
أسرع كفيف للدخول إلى المسجد للحاق بالركعة الأولى لصلاة المغرب، وعندما توجه إلى الصف الأول، وكان مسرعاً، سمع صرخة ألم (آخ)! فقد ارتطمت ساقه بأحد المصلين وهو في وضع السجود، ويبدو أنه أصابه في مكان حساس، لم يتمالك الكفيف نفسه من الخجل والضحك على ما سببه لذلك المصلي. هنا سارع في الخروج والعودة إلى البيت ليختفي عن الأنظار، وليتجنب الحرج من المصلين.
يروي كفيف موقفاً مؤلما قائلاً: ذهبت مع والدتي إلى السوق، وعند وصولنا للمحل الذي كانت والدتي ترغب تبديل مقاس لقطعة اشترتها، أوقفتني قرب باب المحل من الخارج مواجهاً للطريق. أحسست بدخول شيء في عيني، فأخذت أحرك جفني وأرفع حاجبي لعلي أتخلص من ذلك الشيء المضايق.
وما هي إلا لحظة، حتى أحسست بصفعة شديدة على خدي كدت أفقد معها توازني، وسمعت سباباً من رجل يقف أمامي ويهددني ويعيب علي تصرفي في مغازلة زوجته الموجودة في السيارة أمامي.
لم أستطع الحديث لحظتها، فقد كنت مصدوماً من شدة الصفعة وحديث الرجل، وبعد أن تمالكت نفسي، أخبرته بصوت متحشرج بأني كفيف بصر وقد كنت أحاول التخلص من شائبة دخلت في عيني.
فوجئت بضم الرجل لي واعتذاره لي بشكل شديد ويقبل رأسي ويطلب السماح عن تصرفه الأحمق. قلت له: هدئ من روعك، ولعلك في المرة القادمة تخفف قوة الصفعة، ضحك وضحكت معه رغم الألم الشديد في خدي.
يقول كفيف: توجهت للمستشفى وأنا أحمل معي كيساً به عبوتا تحليل، وعندما اقتربت من باب المستشفى، وإذا بالكيس يخطف من يدي على يد سارق، هنا وقفت في مكاني وأخذت أضحك ضحكاً هستيرياً وأنا أتخيل ردة فعل السارق عندما يفتح العبوتين ويكتشف ما بهما.
يروي كفيف قصته في المطعم قائلاً: دُعيت لمأدُبة عشاء في مطعم مأكولات بحرية، اخترت أجمل ملابسي وكانت عبارة عن بنطال باللون الأبيض، وقميص مخطط بألوان فاتحة. كان المطعم عالي المستوى، وهي أول تجربة لي، استأذنني النادل ليضع الفوطة على فخذاي، فهمت من ذلك أن هذه الفوطة تعمل على حفظ الملابس من سقوط جزيئات الأطعمة عليها. وبعد أن انتهينا من تبادل الأحاديث والضحك، أنزلت يداي لأمسحهما بالفوطة استعداداً لمغادرة الطاولة وتوديع الداعين.
هنا همس في أذني النادل، بأن ملابسي تزدان بالألوان وطبع الأصابع، علمت أن الفوطة قد سقطت في الأرض أثناء جلوسي ولم أكن أعلم بها، ولأتدارك الموقف، قلت له: إنني أفضل مسح يداي بملابسي النظيفة عن استخدام فوطة المطعم، ضحكنا وغادرت المكان.
يقول كفيف من مصر الحبيبة، بعد أن تلقيت مهارات استخدام العصا البيضاء في بريطانيا، تعلمت أن رفع العصا أمام قائدي المركبات يجعلهم يتوقفون لأتمكن من عبور الطريق.
فأحببت تطبيق المهارة في أحد شوارع القاهرة، رفعت العصا بشكل مستقيم أمامي لإشعار السيارات برغبتي في العبور، وما هي إلا لحظات حتى مرت أمامي سيارة فخُطفت العصا من يدي وتركتني على حافة الطريق.
وأختم المقالة بأن هناك فرقاً بين النكتة والموقف الضاحك في حياة المكفوفين كنتيجة للعجز البصري، وبين السخرية من صورة الأشخاص وتحركاتهم. فالسخرية من الشكل والحركة أمور مرفوضة، بينما المداعبة والموقف الضاحك أمور مقبولة ومطلوبة إذا ما أحسن استخدامها.
** **
- أنور حسين النصار