تُعدُّ (بلدة الشنانة) بالرس في منطقة القصيم ذاتَ أحداثٍ جِسام، حيث مرَّ عليها وعلى أسرها وعوائلها المتعددة كثيرٌ من الأحداث وذلك عبر تاريخها الطويل، ويكاد أن يكون تاريخها منحصراً بمراحل تاريخية ثلاث، حيث فترة التأسيس للبلدة فيما قبل عام 1200هـ، ثم الفترة التاريخية الثانية ما بين عام 1200هـ وعام 1322هـ، وبعد ذلك كانت الفترة التاريخية الثالثة ما بعد موقعة الشنانة الشهيرة والتي كان قطع نخيلها وتدميرها عام 1322هـ على يد ابن رشيد ومع أحداثها وحوادثها كانت نهاية قرى لبلدة الشنانة ونشأةِ أخرى من القرى.
* بلطان وتأسيس قرية البلطانية:
الحديث عن المكان لا يمكن أن يكتمل إلا بالحديث عن الإنسان، حيث إن الإنسان هو من يضيف القيمة للمكان ببنائه وعمرانه، وبناء المكان والإنسان لا يقل عن جهود المعارك في حماية البلدان، وتتضاعف الأهمية في أزمنة مضت حينما كانت صعوبات الحياة في بناء العمران وتأسيس مصادر عمل ورزق للإنسان دون أي مُعدَّات مُعِينة أو أدوات مساعدة، ودون أي دعم مادي للزراعة أو البنيان.
ويُعدُّ محمد بن علي بن سليم بن فوزان بن شارخ المحفوظي من العجمان -رحمه الله- المؤسس لقرية البلطانية والمبادر ببناء السكن وإيجاد المزرعة أو المزارع، وذلك في بلدة الشنانة، ومحمد هذا هو المعروف بلقب «بلطان»، وسبب تسمية بلطان قيل إنه كان جالساً في الشمس وقال له الحاضرون من جماعته لا تضرك الشمس. قال: أنا بلطان، أي بردان (من البرد)؛ لأنه لا ينطق بعض الأحرف من مخارجها الصحيحة لعجمة في لسانه، [محمد المزيد، آل محفوظ العجمان، ج1/ص82]. وكانوا يُسمون (السِّلِيم) -بكسر السين واللام- قبل لقب البلطان، وكتابة تاريخ وفاة بلطان جاءت هنا من باب التقدير الزمني وليس التحديد المُدوَّن في التاريخ.
وبلطان بهذا التأسيس لهذه القرية أصبح من أعلام بلدته الشنانة، وقد دوَّنت كتب التاريخ المعنية بالبلدة هذا الاسم، وكانت تسمية هذه القرية (البلطانية) بهذا الاسم العائلي البلطان، ولا زالت معروفة بهذا الاسم منذ تأسيسها قبل منتصف القرن الثالث عشر حتى كتابة هذه الأسطر، وتُعد هذه القرية من القرى والمزارع التي ظهرت في الفترة التاريخية الثانية للشنانة، وذلك بعد غزو طوسون باشا وأخيه إبراهيم عام (1230-1232هـ)، ويذكر الأستاذ سليمان الرشيد أن تأسيسها وطلعتها الأولى على يدِ بلطان عام 1235هـ وذلك بكتابه مساجد الرس وأطرافه، وبهذا التاريخ يكون تأسيسها قبل نشوء قرية البلاعية بحوالي عشرين عاماً، وتُوجد بعض الوثائق بالشنانة بيعاً وشراءً وتسبيل منفعة (وقف) معنية بأسرة البلطان والبلطانية.
وللبلطان وقفية باسم المؤسس لقرية البلطانية عام 1284هـ، وكانت الوثيقة الأساسية بكتابة عبدالعزيز المحمد المطوع الموصوف بمطوع الشنانة، ويبدو أنه من مطاوعة البلطانية وقد تكرر ذكره في بعض الوثائق، وهذا الاسم غير المتداول بالرغم من تزكية الشيخ صالح بن قرناس له في إحدى الوثائق، مما يدل على التنوع الأسري والعائلي في بلدة الشنانة، وقد نصت الوثيقة بالوقفية المعنية ببلطان والبلطانية، وهي المنقولة نسخاً والمؤرخة عام 1353هـ بخط ناصر بن سالم الضويان، وكذلك كان النسخ لها بخط محمد الخربوش في سنة 1370هـ.
والبلطان من العائلات التي سكنت الشنانة وعَمَّرتها بالمزارع في الفترة التاريخية الثانية للشنانة بعد عام 1200هـ مع غيرهم من أبناء أعمامهم المحفوظي، وهم: الشارخ والرشيد والرميح والدهلاوي والغفيلي والعلوان ممن أسهم بعضهم بتأسيس الشنانة سابقاً وعمارتها لاحقاً مع غيرهم من العوائل الأخرى، وعائلة البلطان يُعدُّون بهذا مؤسسي هذه القرية في فترة الشنانة التاريخية الثانية (1200هـ -1322هـ)، وكان للمحفوظي إمارة بلدة الرس وأطرافها كما هو معروف تاريخياً.
وبهذا فإن للبلطانية تاريخاً (متقدماً) معنياً بتأسيسها الذي كان بعد الغزو الأجنبي للشنانة والرس.
وللبلطانية تاريخ (متأخر) معني بعمارتها المتكاملة جاء بعد قطعة الشنانة 1322هـ حيث كانت الفترة التاريخية الثالثة للشنانة، وحيث كان توسع قرية البلطانية بالمساكن والمزارع وتعدد الأهالي من سكانها، وذلك في هذا التاريخ المتأخر تقريباً، وبين التاريخين المتقدم والمتأخر حوالي ثمانين عاماً!
ومن مقاطر نخيل البلطانية التي جاءت متأخرة بعد البلطان، وتحديداً في الفترة التاريخية الثالثة للشنانة مقطر نخيل للمحسن من عائلة الخليفة، ومقطر ثانٍ لخليفة المنيع، ثم مقطر الحسين من الخليفة. وكان ممن سكنها من غير المزارعين الشيخ سليمان بن ناصر السلومي وأولاده، وذلك حينما رحل من البلاعية إلى البلطانية من قرى الشنانة ومكث فيها حوالي تسع سنوات (1363-1371هـ)، وكان يخلف الإمام في مسجدها هو وابنه عبدالله بن سليمان السلومي، وكان للظواهر والغفيلي والزرير التميمي وغيرهم سُكنى فيها كذلك.
ومن التوصيف عن مزارع البلطانية أن أكثرها كانت مقاطر نخيل من الشرق للغرب تقريباً، ومقاطر البلطان أكثرها كان بالجهة الشمالية لقرية البلطانية وقد تعرض معظمها للقطع، وكانت آبارها في شرقها بين مساكنها، ثم كان من جاء بعد البلطان بعقود من السنوات وحَفَرَ آباراً أخرى غربها وهي التي أصبح مُصلى عيد الشنانة بجوارها. وقد تنامت هذه القرية سكانياً بعد سنة القطعة (قطعة نخيل الشنانة) عام 1322هـ، ويمكن أن يطلق عليها بعد القطعة بصورة خاصة (الشنانة الصغرى) وذلك بعد الشنانة القديمة؛ حيث تُعدُّ قرية البلطانية من أكبر التجمعات السكانية كثافة بعد قطعة الشنانة، ويسكنها عوائل كثيرة ومتعددة خاصة في مرحلة البلدة التاريخية الثالثة بعد قطع نخيلها، وقد كانت مساكن ومزارع في الوقت ذاته، وإذا كانت الشنانة القديمة عُرف فيها بتاريخها المتقدم ما يُسمى (مجلس الشوارخ) فإن البلطانية قد شهدت ما يُعرف بـ(المجلس العمومي) أو (قهوة الجماعة) لعموم أهالي القرية، وهذه المجالس من دلالات كرم أهالي الشنانة المتقدمين منهم والمتأخرين، كما أنه يحتمل أن تكون مجالس لأهل الحل والعقد في شؤون البلدة أو القرية حسب حياتهم الاجتماعية آنذاك.
وعن هذه القهوة العمومية في الفترة التاريخية الثالثة للشنانة كتب الشيخ عبدالله بن محمد الصالح الحسحوس الخليفة وأورد بعض ذكرياته حول البلطانية، ومما قال: «لم يكن في غالب البيوت [بالشنانة] مجالس للرجال، أو قهوة مستقلة لكل دار، فمجلس القرية هو مكان القهوة، وهو في الغالب محل واحد للقرية كلها، وضيف القرية أو ضيف أي واحد من أهلها يتجه للمجلس العمومي، فمثلاً في قرية البلطانية والتي لا زالت آثار مبانيها قائمة يوجد فيها مجلس كبير يسمى (قهوة الجماعة) وفيه (وجار) وهو مشب للنار، وفيه (معاميل) وهي دلال والأباريق يستخدمها الجميع، والضيف لا يجد غضاضة في التوجه إلى ذلك المجلس العمومي، حيث يوجد الشيبان كبار السن فيستقبلون الضيف، ويأخذون علومه -كما يقولون- ويقومون بواجب الضيافة له، وقصص الإيثار بين أهل الشنانة معلومة وكثيرة، فالفقر والجوع وقلة ذات اليد يعاني منها الجميع، وغالباً كانوا يقدمون للضيف وجبتهم أو ما لديهم من طعام وقد يَبيتُون جياعاً».
ومن وثائق هذه القرية من قرى الشنانة في فترتها التاريخية الثالثة ما كتبه سليمان بن ناصر السلومي بخط يده من بعض الوثائق والوقفيات، والحقوق والأملاك المتعلقة بها، وفي إحداها حَسْمُ نزاعٍ حول (البلطانية) وهي ورقة شهادة سليمان وصالح أبناء خليفة الملقب (حويس) وعبيد الخليفة بن منيع حول مجاهد وأبو هدية وحَفْرِهم قليبهم (البئر) الشرقية من قلبان البلطانية، وحسم النزاع بين حسين ومجاهد، وهي المحررة في 18/ صفر/ 1349هـ، كما كان قلم سليمان السلومي مُعْتَمداً لدى القضاة إضافة إلى شهادته عندهم حول جنوب البلطانية، ومن مشايخ التوثيق لكتابات السلومي عن البلطانية الشيخ محمد بن عبدالعزيز الرشيد، ومنهم القاضي صالح بن إبراهيم الطاسان حسب توقيع القاضي واعتماده عن موضوع قرية الجُديِّدة (جنوب البلطانية) وذلك حسب الوثيقة المؤرخة في 27/شوال/1371هـ وهي سنة تأسيس البناء والعمران لهذه القرية (الجُديِّدة)، ومن منطوق وثائق حسم نزاع البلطانية والاتفاق على بناء قرية الجُديِّدة يتضح دور الأهالي التعاوني بمطوعيهم وبقضاة الرس أحياناً كثيرة.
ووثائق قرية البلطانية الكثيرة وبلدة الشنانة عموماً تكشف أن قضايا النزاع المهمة بل ومحاضر التعويضات الحكومية عن أضرار السيول التي لحقت بالقرية، كلها توضح بجلاء أن الأهالي فيما بينهم لهم معظم الكلمة في شؤون حياتهم العامة والخاصة، وذلك بالتشاور فيما بينهم وحل قضاياهم وإن لم يكن للبلدة أو القرية أمير مستقل.
* سوانح وذكريات تاريخية:
يقول صالح بن سليمان السلومي عن ذكرياته مع قرية البلطانية وبعض المزارع بعد ترك والده مسجد قرية البلاعية بروايته الشفهية للكاتب، وفيها عن النشاط الزراعي المتنامي في قرية البلطانية والشنانة عموماً خاصةً في فترتها التاريخية الثالثة قال: «رحلنا من البلاعية وسكنّا بيت بلطانة بالبلطانية، وكان والدنا معنا بعض هذه الفترة التي تخللها ذهابه إلى (ضرية) بناءً على طلب أميرها، وقد كانت فترة سكن العائلة في البلطانية حوالي عشر سنوات من عام 1363هـ- 1372هـ تقريباً، وفي هذه الفترة زرعنا مع أبي سليَّم الخليفة شراكةً في مزرعة (المحمد) لمدة عامين، وسنتين مع منيع المحمد (عوجان) الخليفة، وزرعنا البلطانية سنتين مع علي الراشد الخشان الغفيلي، ومع عبدالله (عبيد) الصالح الخليفة سنة أخرى (البلطانية)، ثم زرعنا لوحدنا (القريشية)»، وهكذا كانت القرى والبلدات عامرة بالزراعة من مُلَّاكها أحياناً، أو من العوائل المستأجِرين لها أو المستثمرين بالشراكة فيها، كما هو الحال مع معظم عائلات الشنانة وغيرهم حينما كانوا ما بين مزارعين وعاملين في المزارع، وما بين مُلَّاكٍ وشركاء في العمل.
وحول نهاية الحياة الزراعية والعمران في هذه القرية فقد تناقصت حياة السكن والسكان في البلطانية تقريباً بعد أمطار وسيول سُمِّيت (سنة غرقة القوعي) وتُسمى كذلك (سنة الغرقة) عام 1366هـ، وانتهت معظم هذه الحياة تقريباً في هذه القرية بعد ما يسمى (سنة الديم والهدام) عام 1376هـ؛ حيث تهدَّم بأسباب الغرقة معظم بيوتاتها، وانتقل أكثر أهاليها إلى القرى الأخرى المجاورة لها، وكان ممن قبض تعويضات حكومية -حسب بعض الوثائق- مزنة البلطان وقد قبض المبلغ وكالة عنها محمد بن عمر البلطان. وكذلك مريم وبنتها نورة بنت عبدالله السعد وقد قبض المبلغ وكالة عنهما مشل بن عبدالله الحميدان وذلك عن عشان الظاهري، وممن كتب وثائق التعويضات محمد البراهيم الخربوش عام 1367هـ.
وقد أُنشئت بسبب هذه الغرقة لقرية البلطانية قرية الجُديِّدة المجاورة لها بديلاً عنها في السكن دون المزارع والحيطان، وهي التي ظهرت عام 1371هـ ونمت بتمددها العمراني، وكانت من المعالجات الناجحة للنمو السكاني في بلدة الشنانة بصورة عامة كما أكدت ذلك رواية الشيخ عبدالله بن محمد الصالح الخليفة الواردة في موضوع بناء الجُديِّدة في كتاب (الرس وأدوار تاريخية في الوحدة).
وكانت عائلة البلطان ممن خرج من الشنانة إلى الرس والرياض وغيرهما بعد تَهدُّم بيوتها عام 1376هـ، وقد عُرف عن بعض أفراد هذه الأسرة فيما بعد العمل بالتجارة عامة وتجارة العقار خاصة، ومن أبرز هؤلاء الشيخ «عمر بن جاسر البلطان» المتوفى عام 1430هـ وأبناؤه من بعده في الميدان التجاري، وكذلك «عبدالله (عُبيِّد) بن سليمان البلطان» المتوفى عام 1427هـ وهو الذي سكن قرية الجُديِّدة بالشنانة فترة من الزمن، وقد عمل بالتجارة فيما بعد ذلك، ولعائلة البلطان حضورهم في وظائف الدولة الحكومية كذلك.
ولعل من الوفاء لمؤسس هذه القرية أن يكون التدوين التاريخي عنه بالمحافل والمسميات، كما أن من الوفاء المطلوب من عائلته تحديد وتنفيذ وقفية جدهم في وجوه الخير المتعددة. وهي منقبة للجد بلطان ولعائلته من بعده، وذلك للاستفادة الحاضرة أو المستقبلية من مبادرة عطاء لا ينقطع في الأصل رحمه الله.
** **
د. محمد بن عبدالله السلومي - باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
info@the3rdsector.org