كثيرة هي النصائح التربوية التي تؤكد أهمية حوار الطفل، ومشاركته آراءه، والاحتفاء بتساؤلاته، والإجابة عمّا يدور في خاطره، وبيان أثر ذلك في بناء شخصيته، وتطوير تفكيره، وسلامته النفسية، ورضاه عن ذاته، وكل هذه النصائح تنطلق من دراسات نفسية عميقة، مبنية على الإحصاءات الميدانية، والتحليلات المختبرية الجسدية، غير أنَّ ما يجده الإنسان في نفسه أقوى أثرًا، وأعظم تأكيدًا إن منَّ الله عليه بذاكرة تحفظ مواقف طفولته، مقرونة بمشاعره وقتها، هناك يمكنه أن يسترجع الموقف، ويستشعر اللحظة، فيعرف الأثر.
ولقد سمع الفتى من أول يوم دخل فيه المدرسة الابتدائية ما لا يحصيه من عبارات الترغيب والترهيب، ومن نصائح الجد والاجتهاد، والحث على مراجعة الدروس، وحل الواجبات، وحفظ النصوص، والمثابرة، والتفوق، وإدراك أعلى الدرجات... غير أن العبارات التي بقيت تلك التي حلت له لغزًا، أو كشفت غامضًا، أو أزالت وهمًا، أو فرَّجت همًّا، أو بنت ثقة..
ومن أول جلسات الحوار والإقناع التي يذكرها، تلك التي حاورهم فيها مدير المدرسة الأستاذ إبراهيم العبيكي، في أوائل أيام دراسته في الصف الأول الابتدائي، لما أراد أن يبين لهم محاسن المدرسة، وحب المدرسين لهم، فساق على ذلك الشواهد، مستعينًا بالسبورة في إيضاحها، ومستمعًا لما يقوله الأطفال تعليقًا على كلامه، ومن تلك الشواهد أن القطعة من البسكويت كانت تباع لهم بريال واحد، فصارت القطعتان بريال، وما تزال صورة القطعتين في السبورة ماثلة أمام الفتى، وأمامهما سعرهما الجديد!
وفي مدرسته الابتدائية الأخرى، المدرسة السعودية، كانت مديرها الأستاذ عبد الله العقيلي -رحمه الله - غاية في الرزانة والتعقل، والتثبت والتأني، مستعينًا بالحوار الهادئ قبل إبداء الرأي، وكان حواره الأبوي، مصدر قوة طالما لجأ إليها الفتى إن طاله اتهام من مدرس، أو أذى من أحد، أو أوشك أن يُوقع عليه عقاب، فكان يطلب أن يرفع الأمر للمدير، لعلمه بعدله وحكمته، وحسن استماعه وحواره.
ولقد رأى من أستاذه القدير صالح بن سليمان البادي خير ما يرى طالب من أستاذه في هذا الباب، فقد كان إلى جانب إخلاصه الشديد، وحرصه على الإفادة، وتطوعه بدروس التقوية قبل الدوام، كان حريصًا إعجام المهمل، وتبيين المشكل، بالتعليل والتوضيح، ليقتنع المرتاب، ويطمئن المتشكك.
ولما كانت أكثر الاختبارات في المراحل الأولى شفهية يؤخذ الطلاب إليها بالترتيب الألفبائي، وكان الفتى في نصف القائمة الأخير، وكان الخروج من المدرسة غايةً للتلاميذ، يتسابقون إليها، ويتفاضلون فيها بعضهم على بعض، وربما كانت ألذ عند بعضهم من اكتساب الدرجات، وإدراك التفوق، وكان الفتى متضايقًا من تأخر ترتيبه في الكشوف، ولم يكن يعرف له علة، وإذا كان المتفوق عادة هو المقدم، فليس له في هذه اعتبار، فلما شكا إلى أستاذه حاوره حوارًا لطيفًا، فبين له الأمر، ثم أردفه باقتراح لا يخلو من معنى خفي: إن أردت أن تكون الأول فغير اسمك! انتهى الحوار في تلك اللحظة، لكن الفتى ظل يطالب أستاذه بنظر آخر، يتحقق فيه العدل، ولا يكن الطالب فيه ضحية اختيار غيره! حتى رأى الأستاذ أن يبدأ من الأسفل، ولكن النتيجة لم تتغير كثيرًا، فالفتى في وسط القائمة تقريبًا، ثم رأى الأستاذ أن يأخذ واحدًا من الأعلى، وواحدًا من الأسفل، فكان أسوأ خيار للفتى حيث كان آخر طالب!
وفي عام 1406ه استحدث تعليم عنيزة جائزة للمتفوقين، بتبرع سخي من الوجيه محمد بن سليمان الذكير -رحمه الله - فأعدوا في السنة التالية سجلاًّ للمتفوقين، يضعون فيه أسماءهم وصورهم، ومجموع درجاتهم، ويذكرون فيه أمانيَّهم في المستقبل، وحين إعداد البيانات لهذا الكتاب كانت مدرسة الفتى تجري المقابلة مع كل متفوق، يستدعونهم من الفصل واحدًا واحدًا، وكان الفتى ينتظر دوره، وفق ما عهد من ترتيبه التحصيلي بين زملائه، إلا أنه لم يُستدعَ، فدخل الأستاذ صالح الفصل، وفي الفصل أستاذ آخر، فنظر إلى الفتى، ولعله رأى منه استفهامًا في عينيه وترقبًا، فبادر من غير سؤال، وقال يخاطب المدرس والطلبة، ليُسمعه: كنا قد وضعنا اسم فلان (يعني الفتى)، ولكن بعد جمع الدرجات تفوق زميله فلان بدرجة واحدة! ثم سأله، هو والمدرس الآخر، وهو الأستاذ ناصر النعيم، عن أمنيَّته في المستقبل...
وفي يوم دراسي من أيام رمضان عام 1407ه شعُر الفتى بضيق لم يدر ما سببه، حتى ظهر على وجهه، وربما ظهر في عينيه آثار دموع محبوسة، ينجح حينًا في إخفائها ويفشل حينًا، فاستفهم منه الأستاذ صالح فلم يحر جوابًا، ولا يدري كيف يجيب، فأخذ الأستاذ كرسي الفتى وجعله بجانبه، وأعفاه من حل التمرينات، وجعل يحدثه أحاديث عامة، والطلاب مكبُّون على كتبهم يحلون التمرينات، يحدثه حديثًا لا يسمعونه عن أوائل سنوات تديسه في المدرسة، ومن درسهم من أقربائه، ويسال عن أحوالهم، ويذكر ما يعرف من محاسن أخبارهم في دراستهم، ويحدثه عن أيام إدارة والده للمدرسة، وعن هيبته ومكانته، وظل يخاطب الفتى ويلاطفه، ويحاوره حول ما يشعر به، حتى أطمأن على حاله.
كانت دروس الأستاذ صالح محببة للفتى، لا لتخلف شيء من الصرامة والجد، فقد كان يملأ دقائق الحصة شرحًا وتمارين، ويعاقب المخطئ، وينبه الغافل، ويعاتب المتشاغل، ولكن لما وجد الفتى من التفاتٍ إليه إذا تحدَّث، واستماع بإنصات، وتعليق مناسب، وتتميم وتعزيز واستحسان، ويقارنه بما يجد عند آخرين، من استهزاء وتهكم واستخفاف، أو تذمر من مداخلة عارضة، أو استثقال لسؤال.
الذين لا يأبهون بالصغار، ويستهينون بمشاعرهم، ويحتقرون ذواكرهم مخطئون، ومخطئون جدًّا، فسيكبر ذلك الصبي، ويحمل معه الكلمة والطيبة، والنظرة الحانية، والموقف الحسن، ويحمل معه أضداد ذلك، والدنيا صغيرة قصيرة، والحياة تعاوُرٌ ومبادلة، والأقدار عادلة، والله يجزي من أحسن عملاً.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم