تتفاوت مواقف القارئ الناقد من النصوص؛ ففي حين يجد في بعض منها فرصة مواتية لاستعراض قدراته الفكرية وأدواته النقدية، وقد يجد في بعض آخر مساحة لمجاملة صاحب النصوص متى استجابت قناعاته لمساحة المجاملة في التعاطي مع النصوص، وقد يجد في بعض منها إغراء لممارسة أستاذية استعلائية تضع صاحب النصوص موضع التلميذ وإن كانت موهبته أعلى كعبًا من ناقدها. في حين توجد نصوص إبداعية مخيفة للقارئ الناقد؛ لأنها - باختصار - تسلبه هناءته وراحته ليوغل مجبرًا في دوائر قلق لا ينتهي إلا بانتهاء انفعالاته الكتابية مع النص، والقاص المبدع حتى النخاع. محمد الراشدي مزعج في نصوصه، فهو يكتب النص القصصي بحرفية عالية ووعي عميق يستنبت من المهمش متنًا، ومن العادي إدهاشًا، ومن الحدث الصغير حكاية ثرية، ومن اللاشيء حدثًا كبيرًا. وفي مجموعته الإبداعية الجديدة (سقف مستعار) يتجه الراشدي إلى تكثيف حضور المهمش في حياتنا ليكون هو البطل، سيد الموقف المؤثر في حياتنا، ليوظف الأشياء البسيطة جدًا للكشف عن أزمات الإنسان المعاصر، متسلحًا في ذلك بلغته الثرية الخصبة ومتكئًا على الرمز وممارسًا للمخاتلة اللغوية بامتياز، تجعله يقول ولا يقول، يأخذك إلى أول الطريق ويدعك ترسم نهايته كما تشاء، متنصلاً من وعورة السير ومخاطر الطريق ومرارة النهايبات، وهذا هو النص المدهش الذي لم ولن يسلمك قياده من أول وهلة وربما من عاشرها، ولو تتبعنا الخطوط العريضة لموضوعات قصه لوجدنا حضورًا لافتًا لوسائل التقنية والتواصل الحديثة (فلاش ميموري، سماعة، راوتر، وضع الطيران، باركود، هاتف ثابت..)، هذا التمازج بين الإنسان ووسائل التقنية إلام يرمز الكاتب من تكثيفه؟ أهو أزمة الإنسان المعاصر حتى أصبح الإنسان جهازًا متبلد الحس والمشاعر؟ أم هي أنسنة التقنية لشدة صلتها والتصاقها بحياتنا فلا غنى عنها أبدًا؟ أم هي مواءمة وميكنة للإنسان والآلة حتى أصبح كلاهما واحدًا؟، فيما يتضح الخط الثاني في الكشف عن سمات الإبداع في القص من خلال التفكير العكسي أو التفكير بالمقلوب، وهو مما يميز الموهوب عن غيره، مثل قصة (لوحة المفاتيح) وتبادل الأدوار، أو في قوله في نهاية قصة الجدران (..وينعم تحت كفيك الجدار وسيرق حتى يكون بوسعك أن تعلق الجدار على اللوحة)!! أو في قصة (مصباح يجلب العتمة) أو في قصة (ساعة ذكية) التي تقوم على التضاد، ومن الخطوط العريضة اللافتة في المجموعة كذلك هذه اللغة الأبية الباذخة التي تعبِّر عن موهبة حقيقية في الكتابة دون تكلّف؛ لذلك نجد عباراته تتأنق فلسفة في عمق، وعمقًا في وعي، ووعيًا يستعير سقفه في حدود المتاح، وليس صعبًا على القارئ الاستشهاد بأمثلة لذلك مثل (يجهل السيد يوسف قصة الرابط بين الدروع التي كانت بعضًا من عدة الحرب وحفلات التكريم) (قصة عطاس) أو في قصة نبتة الظل (لا ظل في الظل) مستعيدًا بها عبارة الشاعر العلي الشهيرة (لا ماء في الماء) أو في قصة مذكرات فلاش ميموري (..الذاكرة هزيمته الكبرى؛ هزيمته حين تفشل، وهزيمته حين لا يفلح في النسيان) وتبرز اللغة الشاعرية كما في قصة الجدران (فروج الحائط الذي تواطأت مع الضوء لتفتض عتمتك، السقف الذي خذل الدفء في ارتعاشات غرفتك وتدلى منه الشتاء عناقيد مطر خاتل صحو انتظاراتك) أو كقوله في قصة الجراد (ومضة باغتت سكينة الظلام وقفر الطريق ومواجد اللحن القديم، ضوء لا يندثر في آمال الحالمين بالسماء ونور مؤجل في سرمدية الجدب...) فيالجمال التعبير ويالأناقة اللغة!! وكأني بالراشدي يقول لمن استسهل السرد؛ قف عند أعمال ونصوص كهذه لتعرف مشقة التسلق إلى عروش المعانى وعناقيد الكلمات. وتبرز قضية أزمة الهوية للإنسان المعاصر كما في قصة (بطافة هوية) وتشظي الإنسان من خلال احتفاظه بهويتين؛ كما في نهاية القصة، أو كما ورد على لسان البطل في راوتر 1(الأسماء وجود، إعلان حياة، ونحن الأجهزة لا أسماء لنا ولا هوية) كما تناقش المجموعة القصصية قضية الوعي مفتتحًا وختامًا؛ فقصة (لوحة المفاتيح) تشير إلى غياب الوعي أو تغييبه؛ إذ لا أحد يقرأ لا أحد يميز، لا أحد يرصد التغيير الحادث في مواقع الحروف!! كما تناقش الوعي من خلال إثارة الأسئلة والسؤال بوابة المعرفة؛ لتأتي الأسئلة عن المهمل فتجعله في بؤرة الاهتمام والتفكير (كيف قضت الممحاة ليلة أمس في المدرسة؟ لتتعدد الإجابات تبعًا لاختلاف التفكير؛ ثم تفاجؤنا القصة بمحو السؤال في تكثيف لقاموس القنوط والعتمة، ويكرر ذلك خاتمة نص الجراد (وانتظمت بنايات المدينة وهو يغادر شوارعها شريطًا متسارعًا من شرفات لا يرى فوقها إلا الجراد)
والوعي لا يتحقق دون إثارة مناخات التفكير والبحث في كينونة الأشياء كما في قصة (الأقواس) وغيرها من قصص المجموعة الماتعة التي تغري بعدم فصلها عن وقت ولادتها (زمن جائحة كورونا) كما تغري بعدم عزل عنوانها (سقف مستعار) عن آخر قصة في المجموعة (سقف الحرية) وربط (سوار الساعة) بـ(ساعة ذكية) كما تغري بالوقوف مطولاً عند الأسماء والأرقام الواردة في ثنايا القص، وحسبي أن أشير دون أن يزداد تورطي مع هذه النصوص التي أعترف بأنها مرهقة في تناولها وكأني بالقاص الراشدي يتحدث عن نفسه عندما عنون أحد نصوصه بـ(معضلة الكتابة عن رجل يجمع العطور) فكان للعطور جامعًا ولسبر أغوار نصوصه وبلغته المراوغة يقف ممانعًا، ولعلي لم أكتب ما كتبت إلا لرغبتي في عدم التسليم بالهزيمة إزاءها، ولذلك سأقف هنا لأترك لكم السانحة لتقرأوا هذا السقف دون أطر مسبقة تكبل سقف تلقيكم وخيالاتكم.
** **
- د. سعد بن سعيد الرفاعي