غزال بنت محمد الحربي
شاهدت قبل أيام مقطعاً لطفلة سعودية من إحدى مدن المملكة تؤدي رقصات أجنبية مثيرة للدهشة وهي تعبر عن فرحتها الغامرة بالعودة إلى المدرسة بعد انقطاع قارب السنتين بسبب الجائحة. ابتهجت لأسلوب الطفلة وجرأتها في التعبير عن فرحتها وهي أمام مبنى المدرسة. ولكن لفت انتباهي استعراضها لرقصات أجنبية لا تناسب عمرها, فشعرت فجأة أن براءة الطفولة وملامح الهوية قد تبخّرتا معا لتتكثّف في قالب سلوكي جديد. يعد هذا القالب السلوكي الذي تشكّل في تعبيرات الجسد الطفولي المبتهج مؤشراً واضحاً على طبيعة انفتاح الجيل الجديد على ثقافات العالم الخارجي, وعلى طبيعة تفاعل المجتمع المحلي معه. لاقى المقطع إعجاباً كبيراً وتمّ تداوله بشكل واسع عبر مختلف وسائل التواصل الإجتماعي. وقد بدا لي من خلال استعراض الردود أن الأغلبية لم يستنكروا طريقة الرقصات التي قامت بها الطفلة, ولا عن غرابتها على ثقافة المجتمع السعودي. اجتاحني الفضول لمعرفة ثقافة هذه الرقصات ولأي مجتمع أو لأي فرقة موسيقية عالمية تنتمي. ذهبت لابنتي حنين في غرفتها لأعيد مشاهدة المقطع معها ولأناقشها فيه.
وجدت حنين في غرفتها منشغله في إعداد واجبها المدرسي في مادة الدراسات الاجتماعية (Social studies) وكان الواجب يتمحور حول اختيار دولة من دول العالم وتقديم عرض عن ثقافة هذه الدولة أمام طلاب وطالبات الصف. اختارت حنين «السعودية» موضوعاً لواجبها, وكان اختيارها الشخصي. نسيت موضوع الطفلة ورقصتها، وابتهجت برقصة شعورية أخرى بدأ إيقاعها يسري في داخلي. اندهشت لأسلوب حنين في إعداد مشروعها الثقافي عن السعودية. شاهدتها ترسم يدا بخمسة أصابع. رسمتَ على كف اليد خريطة المملكة، ورسمت في كل أصبع ملمحاً ثقافياً محدداً. في الأصبع الأول رسمت صورة للقرآن الكريم لتتكلم عن ديانة البلد. وفي الثاني رسمت حروفاً عربية تتناثر في حيز الأصبع الضيق حتى تقترب في أعلى الأصبع لتشكل حرفين (ح ب) تتعمد أن تلصقهما ببعض. ثم رسمتْ في داخل الأصبع الثالث حبّات تمر دمجتهما معاً بلونين الأحمر والأسود بشكل يثير الشهيّة, حتى إنني استأذنتها أن أكل هذا الأصبع فضحكت, وانهمكت في حشو الأصبع الرابع برسم وجه لامرأة محجبة ورجل يضع على رأسه قطعة قماش لم تتقن حنين رسمها. انتقلت حنين, وهي تأخذ نفساً عميقاً, لآخر أصبع في الصورة ورسمت فيه مجموعة من الحلوى بألوان متعددة وكأنها تجهّز طبقاً ليوم العيد والاحتفالات الرسمية البهيجة.
وضّحت حنين لي أن هذه الطريقة البصرية المبسطة والمبتكرة تعلّمتها من مدرستها الأمريكية لتساعدها في تقديم العرض في الدقائق المحددة له, واستيفاء شرط آخر وهو استعراض ما لا يقل عن خمسة عناصر ثقافية للبلد الذي اختارته. أثنيت على اختيارها وطريقة أدائها للواجب وانحصر دوري هنا في أن أقترح عليها يوم العرض أن تلبس القميص الأبيض الذي اشتريناه في اليوم الوطني والمنقوش عليه خريطة واسم السعودية.
لم تشاهد حنين مقطع الطفلة ولم أناقشها فيه، ولكنني شاهدت مثالاً واقعياً لطبيعة الانفتاح الصحيّ على ثقافات العالم والذي يتمّ تحت إشراف مؤسسي واعٍ بتحولات العصر الجديد. أدركت أيضا خطورة التشظي الثقافي الكبير الذي يعيشه بعض أطفالنا داخل الوطن والفرق الجوهري في مستوى المثاقفة الصحية الواعية والفاعلة لمن هم خارج الوطن.
حتمية انفتاح العالم على بعضه اليوم مصيراً نعايشه جميعاً, سواء أكنّأ داخل الوطن أم خارجه. وتبقى أمامنا مسؤولية أخلاقية ووطنية ودينية تحتّم علينا, أفراداً ومؤسسات, مواكبة طبيعة هذا الانفتاح الجارف بتكثيف الوعي بأهمية الهوية الوطنية, وفي المقابل تكثيف الوعي بأهمية احترام ثقافات الشعوب والتعريف بها حتى لا يتمّ تقليدها دون فهم لدلالاتها ومرجعياتها الثقافية. يحتّم علينا الانفتاح الثقافي أيضاً توجيه أبنائنا وبناتنا لبناء شخصية واعية قابلة لمساءلة كل شيء جديد والانفتاح على الآخر بوعي؛ وذلك للحدّ من تشظي هوية الجيل الجديد من أبناء الوطن بين ما يشاهدونه عبر العالم الافتراضي وبين ما يمارسونه في العالم الواقعي.
سيتلاشى مقطع الطفلة الذي شاهدته سريعاً, وستظهر مقاطع أخرى لأطفال آخرون داخل حدود أوطانهم يقلدون رقصات وضحكات ولباس وكلمات أجنبية بلا وعي, وسنصفق لهم مجدداً, وسنردد مقولة شيخنا ابن خلدون بأن الإنسان ابن بيئته. وفي المقابل سيعود أطفال المغتربين بانفتاح ثقافي آخر, وبحسّ وطني متقّد, وسيتنمر البعض على ضعف لغتهم العربية, أو على أسلوب نطقهم للكلمات وفضولهم في التساؤل عن كل شيء. وسيحمّل المجتمع الوالدين عبء الهوية المعطوبة لغوياً, وسيلزمهم بدفع ضريبة الاغتراب عن الوطن بالبحث عن مدارس عالمية تحتوي أبنائهم. كل هذا سيتم والمجتمع في مأمن ورضا تامين على هوية أطفالهم الذين يسافرون كل يوم إلى أبعد مكان في العالم وهم بينهم. وستمضي بنا الحياة وتعلمّنا أن الغفلة داءٌ كبيرٌ!
** **
@ghazl03