عبد العزيز الصقعبي
إلى:..
لا أعرف مطلقاً لماذا ابتعدت، أنا أعرف أنني أنا الذي ابتعدت عنك، بانتقالي إلى حي آخر، ليس بعيداً تماماً، ولكن توقعت أن تأتي، تبارك المنزل الجديد، في الحي الجديد، ربما لم أفطن لذلك إلا بعد زمن، لأنني وقتها كنت مصاباً بالدهشة ومحاولة استيعاب ما هو جديد ومتغير، بعد أن وجدتُ منعطفاً جديداً في حياتي أحالني إلى حياة أخرى، ابتعدت كثيراً عن حياة الصبا والطفولة، وبكل تأكيد أبعدتني عنك وعن آخرين مثلك، ولكن أكرر لماذا ابتعدت أنت، لماذا لم أجدك بجانبي كما كنا سابقاً، حين يقرر أحد النيل مني، غالباً بدون سبب، ولكن لتفريغ شحنات الغرور التي بداخلهم، حتى يوسعوا سلطتهم على الضعفاء، وأنا معك، أنت معي لم نكن ضعفاء، أنت وبقية مثلك، معك ومعي، حينها لم نعرف أن العالم شاسع، أكبر من الحي الذي كنا نقطنه، والمدينة التي ولدنا وعشنا فيها، لك أن تتخيل الآن كم كنا صغار، صغار جداً، وأن الآخرين وإن كانت أجسامهم أضخم وأعمارهم أكبر، ولكن يبقون صغاراً مثلنا، لم أعرف ذلك إلا الآن بعد أن تذكرتك، وذلك بسبب غريب، قد يكون غير مهم لك، وربما لا يعنيك مطلقاً، ولكن بالنسبة لي أجد أنه مع غرابته مهم لي، لا أريد أن أذكره لك الآن، خوفاً من أن تقول «هل شعرت بالحنين للطفولة لتبحث عنه»، ليس ذلك تماماً، إنما صدقني لقد تمنيت كثيراً، وبالذات الآن أنك لم تبتعد.
إليك أكتب هذه الكلمات وأعرف أنها لن تصل، ولكن ربما أنك ما زلت هناك تنتظرني لأعود، وأرافقك في مشوارنا اليومي، إلى ساحة لا تبعد كثيراً عن حينا، حيث الصبية يلعبون الكرة، نجلس ونراقب الجميع، لم نفكر مطلقاً أن نشاركهم اللعب، أجسادنا صغيرة وواهية، لكن لدينا الجرأة أن نبتعد قليلا ولا نتوه، لنشاهد ثلاثة رجال يجلسون على بساط أتذكر أنه من قماش سميك مخطط بالأبيض والأحمر، أحد هؤلاء الرجال معه عود ويغني، وآخر معه طبل، نجلس على طرف البساط ونستمع بعد أن مللنا من متابعة كرة يركلها الصبية لتلج بين ثلاث خشبات ويفرح البعض بتسجيل هدف، لم نشاركهم الفرح، لأن ذلك لا يعنينا، ولكن ها نحن نستمتع بسماعنا لذلك الرجل وهو يغني «عشقته ولا لي في المقادير حيلة»، لم نكن نعرف معنى العشق، ولكن ربما كنا نعيش حالة قريبة من العشق، مع كل جمال حولنا، لعب الصبية، تلميذات المدارس اللاتي يقفن في انتظار باص المدرسة، والتي لم أكن أراهن بوضوح، بالمناسبة لم أكن أعرف أن لدي قصر نظر وقتها، وأنني أحتاج للبس نظارة طبية، ربما حين ابتعدت عنك، كان قرار والدي الأول، الكشف على نظري، وحين لبست النظارة، بدأت أرى كل شيء بوضوح، ولكن وهذه المأساة التي لم أشعر فيها إلا الآن، أنت ابتعدت، وأنا كبرت، وبدأت أرى أشياء أخرى، ليس لعب الصبية ولا طرقات الحي الضيقة، بل عالم صاخب، كبير، ألم أقل لك، نحن كنا صغار جداً، لم أحن للطفولة تماماً، ولا لكل الأحياء والمدن التي مررت بها، بقدر ما تمنيت، أن يعود بي الزمن لذلك لوقت الذي قررت به أن أغلق الستار على زمن سابق، كان من المفترض، أن نكون معاً ولكن وجدت أنني ضمن جمهور غادر المسرح دون أن يحيي أبطال مسرحية كنت من ضمنهم، لماذا لم تغادر معي، انتهت المسرحية، ولن تعرض مرة أخرى، هل بقيتَ وحيداً، تنتظرني، أم أنني نسيت أن أسأل عنك وقتها، ولا أتذكرك إلا بعد زمن طويل، لأكتب لك هذه الكلمات، وأبحث عنك في ذاكرتي.