د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تحدثت في المقالة السابقة عن وصف الطعام عند الأدباء القدامى، وذكرت أنه وصف أدبي الغاية منه بيان قيمة الطعام نفسه ومقدرة الأديب سواء كان شاعراً أو ناثراً على الوصف، بيد أن الأدباء ليسوا منفردين في هذه العملية، فهناك آخرون يشاركونهم هذه العملية (وصف الطعام)، لكنهم يختلفون عنهم في الغاية.
أول هذه الفئات هي فئة كاتبي قوائم الطعام، وذلك أن بعض المطاعم خاصة الراقية منها، تتبع اسم الطبق بوصف قصير يبين المكونات التي تكونه. هذه المكونات في العادة ليست عرضاً لأسماء المكونات كما هي، وإنما تسلك طريقة معينة في تقديم عناصر الطبق تجعله مقبولاً لدى طالب الطعام. وهي وسائل مقصودة يستعملها الكاتبون ويوصي بعضهم بعضاً بها. نجد نموذجاً منها مأخوذاً من مقالة باللغة الإنجليزية يذكر فيها الكاتب الطريقة التي توصف فيها الأطباق بحيث تكون (watering mouth) بالترجمة الحرفية مسيلة للعاب.
وأول صفة من الصفات التي ينبغي أن تكون عليها هي «التنافسية» بأن تكون قادرة على المنافسة، وذلك من خلال القدرة على اجتذاب الباحث عن الطعام، ومنعه من أن يذهب إلى غيره من المطاعمبأن تكون جذابة، مشوقة للقارئ حتى إنه ليشتهي الطعام المذكور، فيسيل لعابه.
ثم يذكر بعض الصفات التي تمكن هذه التنافسية، كأن يكون الوصف شاملاً من خلال إعداد «نسخة للبيع» بمعنى أنها نسخة تجارية في المقام الأول، وهذا يعني أنها ليس من الضروة أن تطابق الواقع بل إنه يجزم أنها قد لا تطابقه، ولذلك يدعو إلى الابتعاد عما يعكي فكرة خاطئة محددة عن حقيقة الأطعمة من الصور، بخلاف الكلمات التي لا تمنح ذلك الشعور، بقدر ما تشتمل على نوع من الغموض المحبب الذي يدعو القارئ إلى مزيد من الشوق. ثم يدعو إلى استعمال بعض الصفات الواضحة الحادة التي تمكن الناس من فهم ما يقرءون، ويضرب على ذلك مثلاً بقوله في وصف طبق اللازانيا:
«طبق معكرونة من القمح الكامل غني وكريمي مملوء طبقه مع البصل الطازج والثوم، مغطى بصلصة عصارية، ومغطاة بموزاريلا مستوردة عالية الجودة».
أو قوله: «دجاج مقرمش مع الجبنة الأمريكية الذائبة، وفلفل الهالبينو، مولع وصوص الفيري الحار مع شرائح خس طازجة، وقطع طماطم».
والذي يلفت الانتباه في هذه التوجيهات أن كتابة الوصفات صارت فناً من الفنون ينبغي أن يصاغ على صورة معينة ليحقق غايات نفسية وذوقية ينبني عليها بعد ذلك غايات تسويقية. وقد لا تكون هذه التوجيهات دقيقة أو هي النموذجية بيد أنها تكشف عن وجودها، ومادة يمكن البدء منها.
ففي النموذج الأول نجد صفات مثل: «الكامل»، «غني» «كريمي»، «الطازج»، «مستوردة» «عالية» «الجودة»، وهي كلها صفات إيجابية تمنح إيحاءاً بقيمة المادة المقدمة، وتعطي معنى زائداً مضافاً إلى المعنى الذي تمنحه أسماء العناصر. وهو تفصيل في الحديث عن العناصر غير محايد لأن الصفات كلها تنحو نحواً واحداً وهو إعلاء قيمة الطبق المقدم. وهذا سيختلف لو أن العناصر مذكورة من غير تفصيل في الوصف، فكل عنصر من هذه العناصر يبين بوصفه العنصر المقصود الذي يحمل المادة الكافية للغذاء والذوق الكامل.
وفي القسم الثاني نجد بيان العلاقة بين هذه العناصر؛ المعكرونة في علاقتها بالبصل، وتعتمد على المعية في حين أنها في علاقتها مع الصلصة والجبن قائمة على التغطية أي الفوقية، والانفصال.
وفي النموذج الثاني نجد صفات مثل: «مقرمش»، «الأمريكية»، «الذائبة»، «مولع»، «حار». وهذه الصفات على خلاف الصفات السابقة تحاول أن تبني إحساساً قوياً يشرك السمع (مقرمش)، ويستفز استجابة قوية للجسد «مولع»، «حار».
وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذه المادة المكتوبة مجموعة من الصفات المتتابعة، ولكن بالإضافة إلى ما ذكرناه من قبل عن نوع الصفات، فإنها أيضاً تمنح القارئ شعوراً بجاهزيتها للأكل، فالخس شرائح، والطماطم مقطع، في حين أن الدجاج مقرمش ما يوحي بجاهزيته وبنوع الإنضاج المتبع، وهذا يعني أنها لا تكتفي بذكر الصفات بل تتجاوزه أيضاً لبيان طريقة الإعداد، وهذا ما يكسبها قدراً من التشويق.
والأمر المهم في هذه الصفات الإيجابية أو التفاصيل في الكلام أنه يطلق العنان لخيال الطاعم حتى يثور شوقه دون أن يعرف بالتحديد السبب وراء ذلك، فهو يسعى إلى الكمال الذي تبعثه الرغبة فيه هذه الصفات، بعيداً عن الأطباق الأصلية، وذلك أن هذا الشعور الذي تمنحه الصفات بوصفها دوالاً لغوية مستقلة عن سياقها يمنح إحساساً جديداً لا صلة له بالطبق الأصلي، وهذا يدل على أن كاتب الوصفة يحتال من خلال هذه الصفات، وما تثيره في نفس القارئ من نوازع لتسويق طعامه عن طريق ربط شعوره نحو الطعام بالشعور الذي يبعثه العالم الذي تحيل إليه الكلمات، وهذا يربط هذه الوصفات فيما يسمى بالدراسات النقدية بالخطاب الإشهاري، ويمنح أساليبها سمة الأساليب الإشهارية الجديرة بالدراسة.
وفي ظل ذهاب هذا الكاتب إلى أن يكون مشوقاً يسيل اللعاب ويغري الطالبين في هجر المطاعم الأخرى، يذهب آخرون إلى أن الوصف ينبغي أن يكشف عن استطعام الواصف، وليس الشكل وحسب، فالمهم هو أن يبين الطعم من خلال الوصف، ويقترح آخر بناء على هذا، البحث عن طريقة لمعرفة الطعم عن طريق السمع أو النظر عوضاً عن الذوق.
فبين الرغبة في إغراء قارئ قائمة الطعام، والقدرة على معرفة طعم المادة المأكولة يمكن القول إن اللغة هي الحكم في هذا، إلا أننا وبناء على عدم وجود نص في الجانب الثاني يبين كيف تكون اللغة قادرة على نقل الطعم عوضاً عن الذوق يكون من الصعب الحديث عن هذه الغاية.