لماذا صمتت المرأة المبدعة عن قضاياها البيولوجية الخاصة؟.
قبل أن أرمي دلوي في بئر هذا السؤال العميق، لي موقف بالنسبة للتنميط وهو مغاير عن النظرة الشائعة له، لذلك أود أن أشير إلى أن المرأة المبدعة تتفرد بشخصية تميزها عن بقية النساء، شخصية منصهرة تماماً في الإبداع بكل أشكاله؛ لذلك هي لا تضع الآخر ضمن دائرتها، بل تتجرد تلقائياً منه وتعيش حالتها الإبداعية لكن فيما بعد إنتاجها تقع في موقف الآخر من هذا الإبداع الذي يعبر عن أوجاعها وقضاياها البيولوجية الخاصة، وتنصدم بالنظرة الهامشية والدونية، الشيء المبهج مؤخرًا بأن الوعي بتثمين هذا المنتوج الإبداعي والتعمق في الإحساس به من قبل الآخر أصبح ظاهرًا إلى حد ما، بل نجد البعض يصبح شريكًا داعماً لهذا الإبداع والوجع ويتبناه. الصدمة من ردة فعل الآخر تجاه قضايا المرأة البيولوجية الخاصة يجعلها تكوّن ردة فعل دائمة التبرير عمن وصمها بصفات الضعف والنعومة، ويأتي هذا مقابل عملية الرفض التام؛ فالإحساس بالإقصاء والتفرد بالمساحات كلها إحساس مميت يجعل المرء يشعر بالدونية والشيء الفائض عن حاجة الكون.. فمالك مع المبدع؟.
وبالنسبة لي، لا أرى الموضوع من باب التبرير إنما «التوضيح» فالآخر بسبب الموروث الفكري الذي تتداوله الأجيال حتى اللحظة أصبح يعيش حالة من اليقين بأن هذه سمات دونية ومواطن ضعف عند المرأة وهذا ليس بصحيح، ويأخذني لفكرة «جهل الجهل» عند البليهي الذي قال فيها «إن جهل الجهل هو أصعب عوائق المعرفة، فالذي يجهل جهله لا يحاول أن يتعلم والذي تغيب عن ذهنه احتمالات الخطأ لا يكون حذراً في إصدار الأحكام، ولا يضع باعتباره ما تلحقه أحكامه بالآخرين من أذى ولا ما تسببه للحقيقة من تشويه».
وهذا الجهل له سياقه التاريخي البشري الذي انطلق من المجتمعات القديمة التي كان لها دور فاعل في زراعة الصورة الذهنية القاصرة وتحديدًا عصور ما قبل الإسلام التي حصرت المرأة في الرؤية الشيطانية، حيث كانت تعامل مثل الأدوات التي تُباع وتشترى بالأسواق وتورّث ولا ترث، خاضعة تمامًا ومنزوعة من الحقوق والسيادة وكل ما يمكنه أن يعبر عن كينونتها، ومن هنا بدأت رحلة محاولاتها في إثبات الذات والهوية وتصحيح الصورة الذهنية وكان الإبداع أحد أدواتها التعبيرية وأحد أهم الميادين التي تعبر من خلاله عن أوجاعها وتتحدى الآخر في تجويدها له وبذلك انشغلت عن آلامها الحقة، كما وجدنا بعضهن خرجن إلى ميادين تضاهي ميادين الرجل فخرجت إلى عالم السياسة والاقتصاد.
قد يرى البعض أن انتقال المرأة من البيت والإنجاب ودور الأمومة إلى الفكر والثقافة قد تحول دورها في الحياة الاجتماعية من منتجة «بيولوجية» إلى منتجة ثقافية، جعلها تظن أن الإنجاب منزلة دونية لها والنتاج الفكري سمة عليا بينما على العكس تماماً، فالمرأة مؤمنة بدورها كأم وكإنسانة تجاه الكون والبشرية ولكنها انشغلت بإثبات هويتها ووجودها الإبداعي عن بلورة دورها الأمومي وتجربتها ككيان ثقافي بشكل أوسع.
هناك نماذج نسائية ثقافية لم تتخل عن دورها البيولوجي ولكنها انشغلت في صراعات الهوية والكينونة مع الآخر، ومع ذلك لدينا أعمال أدبية وثقافية ودراسات إنسانية ولسانية للمرأة نفسها تقرأ هذا الدور البيولوجي وتحلله وتقف عند مكامنه الإبداعية والمكتبات العربية والغربية امتلأت بذلك.
وفي المقابل أعتقد بما أننا في زمن تمكين المرأة على كافة الأصعدة فأصبحت قادرة نوعاً ما على تجاوز الآخر، وأول خطوة تساعدها في ذلك هي تجاهل رأي الآخر وتقليص دوره في الحضور الذهني أو كلاعب وناقد حاذق خاصة ونحن الآن نعيش في فضاء تقني تنصهر فيه كل الأسماء والأفكار وأصبح الحضور الهجومي مثل قشة أمام التعبير عن الذات.
بالإضافة إلى أن هناك صورة ذهنية خاطئة لمفهوم الحياء ساعدت على ابتعاد المرأة عن الحديث عن قضاياها الخاصة البيولوجية؛ فهناك الكثير من الأمور انطوت تحت هذا المفهوم وصمتت عنها خوفًا من تهمة «قلة الحياء» بينما تحدث الرجل عنها وأتوقع أن هذا من باب تغليب وتحديد الموضوع في الإطار العلمي ولا حياء في العلم مما جعل الرجل يتناوله كعقل علمي متخصص وبالتالي هنا تحيّدت المرأة المبدعة ورُكنت في جانب الحياء الذي سيخدشها إن حاولت ولو مجرد محاولة في التعبير والكتابة الإبداعية عن ذلك.
** **
- د.منى العتيبي