خلال سنوات دراسته في المرحلتين المتوسّطة والثانوية لم يكن مقرَّرٌ أثقلَ على نفسه من مقرّر اللغة الإنجليزيّة، ولم يصعب عليه سواه، ولم يبحث عن فرار من غيره.
وكان قلقًا من حاله معه؛ فهو يتطلّع لدراسة الطب، ودراسته لا تكون إلا عبر بوّابة اللغة الإنجليزية، وبينهما نفرة شديدة، ومخاصمة طويلة؛ لا يلتقيان في جانب إلا صدّا وافترقا في جوانب كثيرة، حتى كانت درجاته فيها هي الأقلَّ في مقابل تفوّق في المقررات الأخرى وحبّ وأُلفة!
يتذكّر حالَه جيّدًا في آخر أيام عام 1406هـ (أول سبتمبر 1986م)، وهو يجرّ خطاه جرًّا، في طريقه إلى اختبار تحديد المستوى بعد قبوله في جامعة الملك سعود، وكان حينها فتى في السابعة عشرة من عمره، اجتمع في نفسه رهبةُ دخول الحياة الجامعية، ورهبةُ التخصّص، ثمّ رهبةُ دراسة تلك اللغة، وهو يمضي الآن إلى اختبار لم يألفْه، وبأسلوب لم يعهدْه.
هوّن عليه ذاك الصباحَ وذاك «الامتحانَ» مشاركةُ عدد من زملائه، وأنه مضى إليه وهو يعرف نتيجته في قرارة نفسه؛ فلا ريب أنه سيكون مع المجموعة الأضعف، وهو يودّ ذلك؛ لعلّه يدرك خلال عام «شيئًا»، وكانت نتيجة اختباره عادلة، ومحقّقة لرغبته.
وحين دخل القاعة للمرة الأولى جلس طوال يومه وهو يرتعش «كعصفور بلّله القطر»، لا يفهم مما يقال شيئًا، ولا ينبس ببنت شفة! ومضت ساعته الأولى في تلك القاعة طويلة بطيئة ثقيلة تعيسة، وعاش فيها صراعًا داخليًّا عنيفًا، فقدَ فيها إحساسَه بأي تميّز، وخبَتْ جذوةٌ كان يصطلي منها سنواتِ عمره.
لكنّ بارقة أظلّته في ساعته الثانية فوافاه غيمُها وبرقُها، ولمّا يحنْ غيثُها وخِصبُها! حملها ذاك الوجهُ الباشُّ الذي دخل عليهم؛ أستاذًا لمقرر القراءة، ورُبَّانًا هدأت أمواج مشاعر صاحبنا وهو يركب معه، فلا يزال خوفه من الأمواج حوله يطغى ويستبدّ؛ يذكر ما حوله فيرتعد، ويرى مَن أمامه فيطمئنّ!
كان ذاك الوجهُ الهاشُّ الباشُّ وجهَ أستاذه الكنديّ توم كوب (Tom Cop)؛ الذي لم تفارقه البشاشة والابتسامة منذ لحظة لقائهما الأوّل حتى آخر لحظة رآه فيها. التقيا في القاعة كلَّ يوم على امتداد فصل كامل لم يتأخّرا فيه عن محاضرة، والتقيا في مكتبه مرّات، والتقيا في ممرّات الجامعة مرّات؛ فلم ير ابتسامتَه ذبلت أبدًا؛ كأنّها أزهار ربيع مترع بالخصب والنّماء. وعرف كيف تكون الابتسامة مفتاحًا للقلوب، وكيف كانت «صدقة» في الوجوه، وكيف صارت سفيرًا للمطلوب والمأمول!
تلك البسمة الجميلة التي لا تغيب عن محيّاه؛ داخلًا وخارجًا، قاعدًا وقائمًا، مُنصتًا ومتحدِّثًا، رافقها إقبالٌ منه على كل سؤال؛ لا يتردّد معه صاحبنا «المتردّد» عن السؤال، وتشجيعٌ على تخطّي حاجز صعوبة اللغة؛ جعل كلّ الحواجز في نفسه قصيرة هيّنة.
وساعةً تِلو ساعة كان مقعد صاحبنا يتقدّم صفًّا صفًّا، وإقباله على أستاذه «الأجنبيّ» يزداد حَظًّا وحِسًّا؛ حتى لم تمر أيّام إلا كان له مقعده الدّائم في منتصف الصفّ الأوّل، مقابلًا لأستاذه المقبِل، وصارت بينهما مودَّةٌ وصِلةٌ في القاعة، وحوارات وتفاعلات في الدّرس، وعاد إلى التلميذ توازنه، وحُبّبت إليه دراسةُ تلك اللغة، فاستحال كرهه عشقًا، وقلقه راحةً وترقّبًا، وأقبل على تعلّمها إقبالًا لم يرَ في نفسه مثله حتى اليوم. وكان من العجيب حقًّا أن يحصل بعد أقل من شهرين في أوّل اختبار على أعلى درجة ينالها مثلُه من سنوات، وهو الاختبار الذي كان يستصعب أوّل أمره النجاحَ فيه!
وأعجبه في أستاذه ما رآه من تقدير واحترام له ولزملائه ومجتمعهم، وكان من الظاهر إكبارُه لغتَهم العربية واحترامَه لها، ويتذكّره وهو يضحك مسرورًا ويكتب على باطن كفّه ما يقتنصه من فوائدها، وكانت رسالة بليغة بالغة الأثر.
رأى الفتى في أستاذه «توم» صفة أخرى قرّبته إليه، إذْ رأى فيه اجتهادًا في الشرح لا يخبو، ونشاطًا في الدّرس لا يفتُر، وأدرك فيه حبًّا لمهنته، واستمتاعًا فائقًا بوقته وعمله، وغرس في نفس الفتى الفتيّ تلك القيم.
وكغيرها من الذكريات القديمة تلاشت كثير من صور تلك المرحلة، ونُسيت كثير من أحداثها، لكنّ مما بقي في عقل صاحبنا وذاكرته مشهدًا ما زال حيًّا حاضرًا، يستعذبُ حضورَ ذكره، ويستلذُّ ورودَ طيفه.
اعتاد طوال ذلك العام - منذ استبدل بالخوف من دراسة اللغة الإنجليزية حبًّا وتلذُّذًا واستمتاعًا - أنْ يبادر ويبكّر في الحضور قبل محاضرته الأولى بساعة ونصف؛ فأتاح له هذا أنْ يستمتع بمرأى أستاذه «توم» وهو يمشي أمامه بين المواقف والكليّة - وهي مسافة طويلة يعرفها من أدرك تلك الحقبة - حاملًا في يمناه شاشةً كبيرة، وفي شماله طاولةً بكرسي، وعلى جنبه جهازَه، وعلى كتفه حقيبتَه! أسرع مرّة إليه ليعينه ويحمل معه، فكسب من أستاذه تلك الابتسامةَ الجميلة، والردَّ اللطيف، وكأنّه أراد ألّا يحمّل أحدًا من الطلاب شيئًا يراه من لوازم مهنته، وألّا يشاركوه في مهمّته. لكنّ ما أدهشه حقًّا، ونحت في نفسه وقعًا وأثرًا؛ أنّ «أستاذه المدهِش» يسبق الجميع إلى القاعة، ليضع أحماله فيها، ويُعدّ جهازه للطلّاب؛ ليتدرّبوا على تطبيقات لُغويّة، ويتعلّموا بمتعة وإقبال، ثم يتركه بين أيديهم ويمضي إلى مكتبه، حتى تحين ساعة درسه!
لا يدري صاحبنا أيدهش من حبّ أستاذه لمهنته؟ أم لتفانيه في القيام بواجبه؟ أم لصبره وتحمُّله؟ أم لتبكيره ومبادرته؟ أم لبذله وتضحيته؟ أم لحلمه وحسن تعامله؟! لكنّ الذي يدريه يقينًا أنّ ذاك الأستاذ دخل عليه في المرّة الأولى وبينه وبين تعلّم اللغة كما بين الرياض وأوتاوا، وما زالت تلك المسافة تتناقص حتى صارت خلال مدّة وجيزة كالمسافة بينه وبين أستاذه في القاعة. ووقر في قلبه أنّ ما يغرسه الأستاذ من قيم ومبادئ وما ينقله من خبرات وتجارب أثمنُ ممّا يُلقّنه من معارف، وأيقن أنّ الأستاذ ينجح في مهمّته حين يحبّ تلميذُه مادَّتَه.
دعاه طيف «أستاذه المدهش» وذكراه إلى الاجتهاد منذ سنوات في الوصول إليه؛ لأداء واجب الشكر، وتجديد اللقاء والوصل؛ فأعدّ عدّة السفر إلى كندا، وطلب ممّن يعرف هناك مساعدته في الاهتداء إلى عنوانه، وبحث في فضاء العصر، وزار كلية اللغات وسأل؛ فلم يصل إلى نتيجة، ولا يزال إلى لقائه متطلِّعًا، وإلى وصاله مترقّبًا.
** **
- أ. د. أحمد بن صالح السديس