من الأسئلة الوجودية التي أمسكتُ عنها التفكير ومحاولة استطلاع رأي آخر أو حتى التخمين أشتري به ثمن السكوت والإلحاح، ولم يأخذ حقه من الفلسفة، إذ يبدو سهلًا من الخارج لكنه بلا إجابة واضحة وثابتة وحقيقية: «متى تكتب مقالاً جديدًا؟» وأحتار في الإجابة ويظن السائل أنني مترفةٌ بالكتابة أمتنع عنها متى شئت وأبلغ أطراف بيانها وثنايا نحوها وصرفها متى شئت. كلما وضعتْ الحياة موقفًا في فنجان أيامي الرتيب الذي اعتدته واعتاد علي يسوءني أنني ما زلت أتساءل كيف لها أن تتقلب بين مشرق شمسٍ ومغربها، وكيف للأفئدة أن تتبدل، قد يكون فؤادك أحد جماعة المتقلبين ليلتها مع أنك أمضيت وقتًا لا بأس به تُعد خططك وكان هذا اليوم ضمن تقويم الأيام التي ستقودك إلى هدفك ولم يتبادر إلى ذهنك أبدًا أن هذا التقويم يخبئ لك أكثر مما ظننت وخططت، إلى درجة أن يستبدل هدفك بآخر يناقضه تمامًا.
ورغم هذا، فإن آمالنا معلقة على نواصي الأعوام القادمة، مثل آمالنا القديمة في أن تنتهي الجائحة هذا العام لكنها امتدتْ وتجذرت حتى صارت إجراءاتُها الاحترازية هي الطبيعي والمفروض وما قبله مخالف يثير الاستغراب حتى أن صيف الرياض اشتدّ علينا هذه السنة بعد أن قضينا عامًا في مخادعنا تحت هواء التكييف أنسانا شكل الصيف ولظاه. ومع هذه المتغيرات التي نقاوم موجاتها وهي تهبط بنا وتصعد تتبدل صفحات أيامنا ونشهد بأعيننا كل الشواطئ التي خططنا أن تكون ميناءنا القادم وعبرنا من فوقها بمدٍ وجزر ولم ترس ِمراكبنا فيها مع أننا نعلم يقينا أن للغيب سُلطة تتفوق على خططنا المتقنة إلا أننا محكومون بالأمل، بالرجاء، بالتعلق.. محكومين بكل شيء، بأي شيء، ما عدا فكرة الهزيمة أو التسليم المعتصمة بحبال فكوكنا المشدودة.
سألني اليوم السائق الذي يوصلني إلى عملي وهو رجل كبير السن وقور من جنسية عربية: «راضية عن نفسك؟» يبدو السؤال في وهلته الأولى مقدمة لخصومة في حين كان حقيقيا، أجبته: «لا أحرث أرض المعاني عند الصباح»، وحدث أن حرثتُ الأرض طيلة العشرون دقيقة إلى مقر عملي، وخطر لي أن أقسِّم الحياة إلى قسمين شخصي ومهني، ثم تفرع من كل قسم فروع وتجزأت الفروع إلى أجزاء وبات صعبًا معها توزيع الرضا فكان من نصيب كل ما تفرع وتجزأ غمرة رضا طفيفة كأن تغمض عينيك ويرتفع كتفك الأيمن فيستريح عليه رأسك المُعبأ بالأفكار.
في أيام في مثل هذه -ولو لم تكن كثيرة- لكن واحدًا منها يمتد سنواتٍ عِجاف بداخلنا وهو في تقويم الأيام الصلب لا يتجاوز يومًا، يصبح العناق بقيمته الغائبة قبلًا الحاضرة أمام كل جسد بروح تعز علينا مصافحتها من على بُعد مترين طوق للنجاة إن هبطت موجة والتوى كاحل المقاومة.
عمومًا، إجابةً على السؤال الوجودي أعلاه، فكل حروف اللغة تخون حين يتعلق الأمر بالتوغل إلى الداخل كأن ما تشهده هناك أفظع مما يخيُّل إلينا، أو أن المضمون أثقل من أن تحمله حروف ثمانية وعشرين يستحيل معها الكتابة، فقط.
** **
- هيا الزومان