- 1 -
استُخْدِمَ مفهوم (المعارك الفكرية والأدبية والنقدية) لتغليف كثيرٍ من المواجهات التافهة التي وقعت بين بعض رموز الفكر والأدب والنقد خلال القرن الماضي، وتغذّت على ما فيهم من أدواء وأهواء أكثر مما تغذت على رصيدهم من العلم والمعرفة، وما كان لهذه المعارك أن تتصدّر مشهدنا الثقافي والأدبي بهذا الشكل الاحتفائي إلا لأنه مُهَيّأٌ (هو أيضاً) للتفاعل مع المبارزة أكثر من الحوار، والاندفاع إلى طاقة التغلّب أكثر من التداول.
هذا ليس حكماً عاماً، لكنه موضوعيٌ إلى حد بعيد، وقادرٌ على فرض نفسه بما يملك من وقائع ومعطيات تاريخية، يأتي في مقدمتها نَدَمُ بعض الكُتّاب الكبار الذين أشعلوا نيران تلك المعارك فكسبوها أول الأمر، ثم قضوا العمر بعدها في رحلة اعتذار وتطهّر، لا بل اعترفوا عَلَناً بأنه لم يكن في رحالهم حين دخلوها إلا ما في نفوسهم من كبر وحقد وكراهية واعتداء، ويكفي أن نستعرض اللغة التي عبّروا بها عن هذا الندم؛ لنتحسّس فيها نتوآت الأذى النفسي الذي أحكم قبضته عليهم، ولم يمايز بينهم إلا بنوع السقوط: بين مادي ومعنوي، وتوقيته: بين معجَّل ومؤجَّل!
لقد خلّف هذا الندم المعلن مدوّنة طريفة، تستحق أن نعتني بها اليوم كما اعتنينا زمناً بتلك المعارك التافهة، وأقدّر أن تفضي بنا إلى الكثير من الأسئلة والملحوظات المهمة.
- 2 -
يمكن أن أستدعي هنا - على سبيل المثال - المعركة التي وقعت بين الأديبين إبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري، وسقطا فيها معاً سقوطاً مُدوّياً، فأما شكري فكان سقوطه مادياً؛ إذ آثر الصمت والانسحاب من المشهد الأدبي متأثراً بما كتبه عنه المازني في (الديوان)، وأما المازني فكان سقوطه معنوياً؛ إذ أحاط به الندم من كلّ جانب، وأخذ ينقص قلبَه من أطرافه، حتى اضطُرّ - بعد سنوات - إلى إعلان ندمه بـ «كلمات ليست كالكلمات»!
بدأت المواجهة بين الاثنين حين اتهم شكري المازنيَّ بالسرقة أو كاد، ونَقَدَه في بعض ما كتب نقداً لم يحتمله الأخير، وبدلاً من الردّ عن نفسه والدفاع عن شعره اختار التشفّي وبالغ في الاعتداء؛ فأخذ يكتب في شكري ويضرب، ومضى يتفّه فكره ويسفّه تجربته، ويجرده من العلم والعقل والإنسانية حتى سكت عنه الغضب، لكنه عانى بعد ذلك من الندم، وشقّ عليه، ولم يستطع أمام سطوته إلا الاعتراف بما اقترف، فاستغلّ إحدى المناسبات وأعلن فيها ندمه على ما كتب في حق شكري، وحكى الحكاية كلها ليتطهّر من جميع تفاصيلها، فإذا منطلقه فيما كتب شخصيٌ وليس موضوعياً، وإذا هو ممتلئٌ على صاحبه قبل أن يمسّه بنقده، وقال حينها: «ولا أكتم القارئ أني انتقمتُ لنفسي شرَّ انتقام، وأني أسأتُ إلى شكري أعظمَ إساءة، وما كنت أستطيع أن أفعل غير ذلك..».
وختم مقالته بقوله: «وإنما كتبتُ هذا الكلام الكثير لأني أحب شكري وأجلُّه، ولأني نادمٌ على ما صنعتُ به، تائبٌ من ذنبي إلى الله، ومعه وله أن يصدق أو يرتاب، فما لي فيه مطمع، ولقد حاولت أن أكفّر عما أسأتُ به إليه وأن أجره إلى الدنيا مرة فأبى وقال: اتركني ولا تنبش قبري وحسبي ما لقيت منك فأقصرت ونفضت يدي يائساً».
وقال في مقال آخر:
«كيف كنا صديقين حميمين، ثم وقعت الجفوة بيننا وحلت النبوة وتعادينا، وأساء كل منا إلى صاحبه ومضى خير عمرينا إلى قطيعة سخيفة، ولعلي ما ندمت على شيء في حياتي كندمي على ما فرط مني في حقه، ذلك أني أحبه ولا أستطيع أن أجحد فضله علي. نعم كنا زميلين في المدرسة ولكن كان ناضجاً وكنتُ فجاً، وكان أديباً شاعرًا واسعَ الاطلاع، وكنتُ جاهلاً ضعيفَ التحصيل قليلَ العقل، فتناول يديَّ وشدّ عليها، وأبتْ مروءته أن يتركني ضالاً حائرًا، أنفق العمر سدى، وأبعثر في العبث ما هو كامن في نفسي من الاستعداد، وكنت أقرأ ابن الفارض والبهاء زهير فأقرأني شعر الحماسة وشريف الرضي والبحتري والمعري وابن المعتز».
ونلحظ في هذا المقتطف حرص المازني على الذهاب بعيداً في التعبير عن ندمه، إلى حد نقض جميع الصفات السلبية التي خلعها على شكري، وحَمْلها بدلاً منه، بداية بالجهل وقلة العقل وضعف التحصيل وليس انتهاءً بالفجاجة ونقص المروءة، وهذا أكبر بكثير مما أغضبه من شكري!
إنه الندم القاتل، والشعور الثقيل بمرارة الإساءة، وإن تعجبوا فمن عجبٍ أنّ طَرَفَي هذه المواجهة اختارا الانسحاب منها، والتطهّرَ من تبعاتها كلمة كلمة، ونحن ما زلنا إلى اليوم نستدرجها في سياق المعارك الفكرية والأدبية، ونستدل بها على حيوية المشهد الثقافي آنذاك!
- 3 -
إنه مثالٌ من أمثلة لا حد لها، امتلأت بتفاصيل مهمة، يمكن أن يعود إليها القارئ في كتاب (المعارك الأدبية) لأنور الجندي ومراجع أخرى، ولستُ مبالغاً إذا قلت إنه لم تسلم معركة من جملة المعارك التي طرنا بها من بعض عيوب هذه المعركة، وما خلت أطرافها من ندم، لكنه يأتي مباشراً مرة وضمنياً مرّات، مبكراً مرة ومتأخراً مرّات، بلغة صافية مرة ولغة معتّمة مرّات.
وبالتأكيد لا أدعو هنا إلى رد هذه المعارك أو تجاهلها، بل بالتوازن في التفاعل معها، والمحافظة في وصفها وتصنيفها، والتمييز بين ما دار منها على موضوع وقضية وإن علق به من السوء ما علق، وما تأسس منها على أدواء النفوس ونقائصها وإن استظل بظلال الفكر والأدب.
ثمة معارك في الفكر والثقافة والأدب، أفضت بنا - بلا شك - إلى تحرّر الأسئلة وتحرير المسائل، وثمة معارك وحسب، أنفع ما تركته ندم أصحابها، وتسابقهم إلى التطهّر منها، ودمجُ هذا بذاك شيءٌ من العَمَى!
** **
- د. خالد الرفاعي