د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في إجابة ابن حيان التوحيدي على سؤال الوزير أبي عبد الله العارض أو ابن سعدان في الحقيقة، عندما سأله عن رأيه في الوزير الصاحب بن عباد، وطلب منه أن يكون منصفًا، فأراد في إجابته أن يظهر بمظهر المنصف، وإن كان في قلبه الكثير من الألم والإحباط، بسبب موقف ابن عباد، لذلك فقد بدأ بالمدح، ثم أردف بالقدح، وزاد عليه ما شاء أن يزيد من قصص قد تكون مختلقة، وكما نعلم فإن لسان الأديب السليط، أمضى من الحسام الصقيل، وإن كان ابن عباد يملك سطوة الوزارة، فإن ابن حيان يملك قوة العبارة.
وسوف نقطف، في هذا المقال شيئاً، مما قال، دون استرسال، حيث قال: إن الرجل كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كل فن أطرافاً، والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وهو شديد التعصب لأهل الحكمة، والناظرين في أجزائها كالهندسة، والطب، والتنجيم، والموسيقى، وليس عنده في الجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر، يتشيع لمذهب أبي حنيفة، ومقالة الزيدية، ويقول الشعر وليس بذاك، انتهى كلامه.
والحقيقة أنني قرأت ديوانه، ولم أجد في شعره تميزاً، كما أنه ألزم نفسه في بعض قصائده ما لم يلزم، فقد قال قصيدة من سبعين بيتاً لا تحوي على حرف الألف، وقصائد أخرى كل واحدة منها خالية من حرف من حروف الهجاء، وكانت غايته إبراز موهبته اللغوية، وهو بحق موهوب لغوياً.
وبعد أن قال أبوحيان ما قال، وذكر من فضائل ابن عباد ومذهبه ما ذكر، بدأ يسرد مثالبه ويظهر ما خفي من معايبه، فقال: (ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة، والناس كلهم يحجمون عنه لجرأته، وسلاطته، واقتداره، وبسطته، شديد العقاب، طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفينة، قريب الطيرة). وكلمة الفينة تعني الرجعة، أي إنه إذا غضب لا يرجع بسهولة، وفي الواقع أننا لا نعرف إن كانت هذه الصفات يتحلى بها ابن عباد في مجمله، أو أنها صفات اختلقها مكلوم مظلوم حسب رأيه، أراد أن ينتقم لذاته، والانتقام للذات فيه لذَّات، وهذا الشعور كان سائداً من قبل، وبعد، وحتى وقتنا الحاضر فهذه جبلة إنسانية، يريد الإنسان أن يعبر من خلالها عما أصابه من مكايد غيره، أما قوله إن الناس يحجمون عنه، فلا أعتقد أن ذلك صحيحاً، لأن الناس جبلوا على أن يتقربوا إلى ذوي السلطان إلا ما ندر، بغض النظر عن طباعه، وأخلاقه، حتى وإن كانت غير حميدة، فهم في قربهم منه يرجون خيره، أو يتقون شره، كما يظنون، وهم في تلك الحال نسوا أو تناسوا أن الخير والشر بيد الله، وهو القادر على المنع والعطاء، وصرف البلاء. يقول الشاعر:
إلى أن يموت المرء يرجى ويتقى
ولا يعلم الإنسان ما في المغيب
وهذا هو بيت الشعر الذي استشهد به ابن حيان لتبرير إخفائه مسودة كتابه (أخلاق الوزيرين) ويقصد بذلك ابن العميد وابن عباد، وقد ضمنه من سوء القول الكثير، سواءً تصريحًا أو تلميحاً، وهو بهذا قد نسي أو تناسى، قول الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ، إلا إذا كان قد فسَّر الآية على ظاهرها في الاستثناء، بقول الله تعالى إلا من ظلم، وربما أيضًا أنه قد أخذ آية كريمة أخرى وضمنها التفسير نفسه وهو في قول الله تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ .
والشاعر الوزير ابن زيدون، رأى أنه أُدخل السجن من قبل أبو الحزم بن جهور، ظلماً، فقال قصيدة، منها قوله:
قُل لِلوَزيرِ وَقَد قَطَعتُ بِمَدحِهِ
زَمَني فَكانَ السِجنُ مِنهُ ثَوابي
لَم تُخطِ في أَمري الصَوابَ مُوَفَّقاً
هَذا جَزاءُ الشاعِرِ الكَذّابِ
والحقيقة أن ابن زيدون لم يكن فاحشاً في القول، وإنما كان يعاتب عتاباً مؤلماً دون الجهر بالسوء من القول، إلا مع حبيبته الأميرة الأندلسية، ولادة بنت المستكفي، التي أحبها وأحبها معه غيره، فكانت الغيرة تملأ قلبه، فكال عليها الكثيرة من فاحش القول، وهي أيضًا قالت فيه من الهجاء الفاحش، ما تعف عن قولة الرجال، فما بالك بالنساء، وهذه حقيقة بين حبيبين فرق بينهما الزمن، لكنه رجل سياسة، ودهاء، وصبر، ورواء، ففر من السجن وذهب إلى أشبيلية حيث يوجد المعتضد بن إسماعيل بن عباد، وابنه المعتمد، وتولى الوزارة لديهم، وأخذ في ترتيب الأمور لغزو قرطبة، والانتقام ممن أخرجوه منها، وكان له ما أراد، وأسقط حكم بني جهور، الذين أخرجوا منها، ولهذا فهو لم يجهر بالسوء من القول، لكنه فعل فعلاً أطاح بحكم بني جهور، وربما رأى أنه انتصر بعد ظلمه، لهذا فليس عليه من سبيل، وذلك امتثالاً للآية الكريمة المذكورة آنفاً، دون الجهر بالسوء من القول، امتثالاً للآية التي سبقتها.