كان ذلك في أواخر عام 1384هـ. أقلتنا طائرة الخطوط الجوية السعودية من جدة إلى بيروت، وكان مقصدنا كطلاب مبتعثين إلى فرنسا أن نحط الرحال في مطار جنيف في بلاد الجمال والهدوء (سويسرا) حيث توجد الملحقية التعليمية آنذاك، وكانت الخطوط السعودية لم تمد أجنحتها بعد إلى هناك، وكان علينا المكوث في بيروت أو سويسرا الشرق لبضعة أيام، نتزود فيها بما يلزم من ألبسة ومعاطف أوروبية.
وبعد ثلاثة أيام غادرنا على الخطوط السويسرية إلى وجهتنا النهائية (جنيف). ولا أريد أن أتحدث عن هذه الرحلة والبلاد السويسرية؛ فقد أشبعتها حديثًا من قبل، ولكني أريد أن أعود بأيامنا الخوالي أنا وزملائي التي قضيناها في سويسرا الشرق لبنان، وما أدراك ما لبنان، تلك البلاد الجميلة والنظيفة التي لا يعكر صفوها إلا صوت منبهات أبواق السيارات، ولاسيما أصحاب سيارات الأجرة؛ إذ كانوا نزقين في قيادتهم وطباعهم وأخلاقهم بعكس غالبية أهالي لبنان، ذلك البلد الطيب في تلك الأيام الخوالي، يوم كانت الليرة اللبنانية تعادل قرابة الريالين، وكان كل شيء جميلاً في لبنان؛ بلد مزدهر سياحيًّا، تجاريًّا، صناعيًّا، زراعيًّا واقتصاديًّا.
وكانت البنوك اللبنانية والأجنبية شامخة في معظم طرقاته الرئيسية، وكانت التجارة مزدهرة فيه، والمطاعم وجميع أنواع المأكولات والمشروبات والحلويات والفواكه والبضائع، غربيها وشرقيها، تغص بها أسواق وجنبات بيروت، ومطابعها تطبع جميع أنواع المجلات والصحف والكتب؛ فكانت بلاد النور والعطاء والخير حتى عادت القهقرى في سنواتها العجاف الأخيرة، وسقطت الليرة إلى الحضيض، وغادرتها البنوك والنخب، ودمَّرها شياطين الإنس من كل حدب وصوب، وزرعوا أراضيها الخصبة بما يضر البشر ويدمر الشعوب بجميع أصناف المخدرات، وأقاموا لها المصانع، وأشعلوا الحروب، ونشروا الطائفية المقيتة؛ فلم يعد لبنان كما كان بلد التعايش والسلام والمحبة والوئام، بل بلد القتل والنهب والسلب والتفجيرات، ببركة حزب الشيطان، وبالمجوسي الأكبر، من يدعي أنه حسن نصر الله، وهو على نقيض اسمه. وتشرد أهل لبنان وافتقروا، ولم يعد للسياح وجود، ولا للتعايش مكان.