بالنسبة لي كانت رواية تشيللو لمعالي المستشار تركي آل الشيخ هي مفاجأة معرض الرياض غير المتوقعة بكل المقاييس. باعتبارها فتحاً نوعياً جديداً في فضاء الإبداع السعودي، ولو حاول ناقد عربي متخصص أن يقوم بمغامرة ثقافية منصفة، فإنه سيكتشف أثر مقاربته النقدية إنه على أعتاب فتح سردي عربي جديد غير مسبوق، وذلك على صعيدي البيئة السردية من ناحية، والتقنية الحديثة المذهلة لإخراجها كرواية مسموعة، رغم أن هذا النوع الأخير غير شائع في الثقافة العربية.
لعل مصدر المفاجأة أنها كانت المرة الأولى التي اطلع فيها على الرواية رغم ما سبق وتردد من أصداء وحوارات في منصات التواصل الاجتماعي، بين من اطلعوا عليها، وبعضهم لم يطلع عليها ورغم ذلك انخرط بكليته في الحوار حولها مكتفياً بحصاده السماعي عنها. والنسخة التي اقتنيتها مكتوب بأنها الطبعة السابعة للرواية.
(2)
من الناحية السردية، أو البيئة السردية على الأصح، حاولت تشيللو أن تغترف صورها من نبع بيئتها الروائية، وهي عبارة عن قرية إيطالية ريفية صغيرة. يسير نمط الحياة فيها على ايقاع بسيط. ومفردات حياة شخصياتها بسيطة غير معقدة، تكاد تكون رتيبة تتخللها مفارح صغيرة وبسيطة، صوت لحن شجي جميل من آلة التشيللو يكفي ليحدث فيها زلزالاً نفسياً جماعياً. وهو كما ترى حدث صغير ربما لا يستوقف أحداً في قلب روما أو أي من المدن الكبرى، ولا يثير انتباه أحد في زحمة شوارعها وضجيج حاناتها. ومنذ الفصل الأول يطل محور الرواية، صاحب حانة صغيرة، رجل بسيط حتى في سقف طموحاته.
هذه الرواية التي تبدأ بحدث بسيط، تجد كلما توغلت مع الأحداث أن الخط الدرامي فيها يتصاعد، وكأنه ينطلق من أوتار التشيللو بهدوء شيئاً فشيئاً، مع انتقال الآلة من يد إلى أخرى تخبئ الموت تحت اهتزاز أوتارها. قدر لا أحد يعرف كيف يهبط بضربة قاسية، ولا أحداً يعرف كيف يتقي ضربته. وهذا هو السر الغامض الذي لا تجد له تفسيراً إلا في صمت الآلة. ولم يخطئ الكاتب، بل كان موفقاً بذكاء في اختياره عنوان الرواية، حين أسند بطولة الرواية، لأول مرة، لآلة موسيقية. هذه واحدة من أوجه تميزها في تاريخ الرواية العربية، أن تكون آلة موسيقية هي محور الرواية.
(3)
وعلى كل حالٍ ليست تشيللو هي التجربة الروائية الأولى التي تتخذ من المجتمع الغربي مسرحاً لوقائع أحداثها وشخوصها فقد سبقتها تاريخياً رواية توفيق الحكيم «عصفور من الشرق» التي صدرت عام 1938. ترجمت ونشرت بالفرنسية عام 1946 طبعة أولى، ثم طبعة ثانية في باريس عام 1960.كما أصدرت ككتاب صوتي Storytel مؤخراً وهي تعالج موضوع العلاقة بين الشرق والغرب بعد صدمة الاحتلال الاستعماري.
وتلتها رواية «الحي اللاتيني» للدكتور سهيل إدريس في عام 1953، التي تعتبر من الروايات الحضارية التي تعقد مقارنة حضارية بين الشرق والغرب، كما يمكن اعتبارها كذلك سيرة ذاتية للمؤلف لحياته في فرنسا.
وتلتها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي السوداني الطيب صالح، حيث نشِرَت في مجلة حوار سنة 1966،ثم نُشرت لاحقًا في كتاب صادر عن دار العودة في لبنان في السنة نفسها. وهي تتناول أزمات المثقف الشرقي النفسية وحيرته الفكرية حين يصطدم بالغرب ويصاب بدوار التأقلم والرفض.
ويلاحظ هنا تميز رواية شيللو التي خرجت عن هذا الإطار التقليدي من تصوير الصراع السياسي الثقافي بين الشرق والغرب، وتجاوزت توترات هذه العلاقة، لتغوص في عالم الآخر الأسطوري بحميمية وإنسانية شفيفة. وهذا مجال ثرٌّ يفتح الباب واسعاً أمام النقاد لمزيد من الدراسات النقدية المقارنة.
(4)
النافذة الأخرى التي تفتحها رواية شيللو تختص بتقنيات الرواية الصوتية، وهي شكل قد تجد له مثالاً في فن الحكي الشعبي حيث يقوم الحكواتي برواية القصص والملاحم العربية الشعبية على إيقاع آلة الربابة، مثل سيرة عنترة بن شداد والزير سالم وأبوزيد الهلالي والظاهر بيبرس وحمزة البهلوان وغيرها من الحكايات التاريخية الواقعية.
وفي حين تتم رواية الحكاية في جمع من الناس مثل المقاهي، فإن الرواية الصوتية المسموعة، مثلها مثل الكتاب تٌسمع في وحدة وانعزال.
لقد حرصت على الاستماع للرواية قبل أن اقتني نسختها الورقية وقد أذهلتني بتقنيات خلفياتها المتنوعة ما بين مؤثرات صوتية موسيقية، ومؤثرات صوتية لمحاكاة الطبيعة وحركة الناس وحواراتهم تحريك الأشياء، كل موقف وفاصل مقروء يصاحبه الصوت الذي يكمل الصورة الذهنية عند المتلقي، وهي صورة أخاذة تنقل المستمع من مكانه وتضعه في قلب الأحداث.
ما تأثير ذلك في تفاعل المستمع مع النص؟.
الفارق أن قارئ النص الورقي سيشكل المشهد المقروء معتمداً على خياله وحده، وفي النص المسموع ستقوم المؤثرات المصاحبة ببناء المشهد ليجد الخيال مساحته لتصور الانفعالات النفسية لشخوص المشهد. وأكاد أقول إن هذا بالضبط ما أتاحه لي الاستماع إلى تشيللو. وإنها لتجربة مثيرة وممتعة بحق. ولكنها بذات الوقت تطرح تحدياً على مستوى الرواية في العالم العربي.
** **
- فهد بن علي العنزي