إن من الفخر تلك الجهود والمبادرات غير المسبوقة التي تقوم بها حكومة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين في حقول كثيرة تتعلق بأداء السلطة التنفيذية في الدولة.
من تلك المبادرات هو الانتقال بتقديم الخدمات الصحية المجانية للمواطن من المستشفيات المرتبطة بوزارة الصحة إلى مستشفيات القطاع الخاص بعد خصخصة مستشفيات الوزارة. ويبدو أن العمل على تحقيق هذا الانتقال يشارف على انتهائه بتسمية (مركز التأمين الصحي الوطني) الذي هو مركز حكومي سيعمل كوسيط عن الدولة التي ستقوم بالتأمين الصحي المجاني للمواطن السعودي.
العبء لن يكون يسيراً على هذا المركز إذا أُريد له تحقيق صيغة تنظيمية ناجعة تؤمن حالة التوازن المنشودة بين أطراف التعاطي مع الخدمات الصحية (ميزانية الدولة، مقدم الخدمة، وصحة المواطن).
ذلك أن الخدمات الصحية في أي دولة بما فيها الدول المتقدمة موضوع ساخن لا ينكفئ الإعلام والرأي العام المحلي في الدول عن إثارته في كل حين، وهي موضع شد وجذب بين الناخبين والمرشحين في هذه الدول. وعلى الرغم من خبرة الممارسة والتقدم العلمي والإداري والتقني في الدول المتقدمة تحديداً، إلا أن النقص يعتري أو الإخفاق يتجلى بعد تطبيق سياسات وبرامج الخدمات الصحية. والمعادلة التي تسعى كل الدول إلى الوصول إليها في تقديم الرعاية الصحية هي تحقيق التوازن بين مسؤولية الدولة في تقديم الخدمة وحاجة المواطن لقدر ما من هذه الخدمة ومقدم الخدمة نفسه.
لذلك هذا المركز بحاجة إلى المزيد ثم المزيد من الدراسة والاستشارات والاستيعاب للخبرات والممارسات الدولية في هذا المجال قبل تحديد أهداف وصدور أنظمة وإجراءات عمل هذا المركز.
يراد لهذا المركز كما أشير سابقاً أن يكون وسيطاً بين مقدم الخدمة الصحية وهي التجمعات الصحية الجاري العمل على بلورتها (خصخصة المؤسسات الحكومية الصحية) وبين المستفيد من الخدمة (المواطن) وبين الدولة كمسؤول عن تقديم الخدمات الصحية ممثلة في الميزانية التي سترصد لسد مدفوعات هذا التأمين.
إن بناء نظام صحي منافس في أي دولة، يمكن تحقيقه من خلال الموازنة بين ثلاثة أسس:
الأول:
ديمومة الصحة العامة للفرد في جميع مراحل العمر، وذلك من خلال السياسات الضاغطة التي تتبناها الدولة مع برامج التثقيف والتوجيه الملازمة لتلك السياسات.
الثاني:
الكفاءة في تحديد السياسات والبرامج والقرارات المتعلقة ببناء نظام صحي منافس من جهة، ومن جهة أخرى فعالية تنفيذ تلك السياسات والبرامج والقرارات.
الثالث:
الموضوعية والتنافسية في أسعار تقديم الخدمة الصحية، لتجنيب موازنة الدولة ما قد ينشأ من واقع إنفاق يتجاوز المأمول.
ما كان دافعاً لهذا المقال هو ما يتعلق بالاعتبار الأول ويرتبط به الاعتبار الثالث دون الإقلال من أهمية الاعتبار الثاني. ويرتبط بالاعتبار الثالث ما لوحظ في أكثر من حالة ولدى أكثر من مؤسسة صحية خاصة ذلك الإسراف غير المبرر طبياً في تقديم المزيد من الخدمات الصحية لمواطن ما ليس إلا لزيادة مداخيلها اليومية من مال شركات التأمين، كما أن تزايد هذه الممارسات قد يجلب المرض للمواطن من جراء كثرة الأشعة السينية وغيرها من الأجهزة الحديثة كالمناظير المختلفة المتعددة الاستخدام.
انطلاقاً من القاعدة الطبية أن «ليس كل عرض مرض وليس لكل مرض عرض» فإن تشخيص الأمراض وتحديد العلاجات أمر في غاية التعقيد والسيولة إذا علمنا اختلاف المدارس والجمعيات الطبية الدولية في المعايير والنسب الحاكمة لكل من التشخيص والدواء.
الأمراض عامة لها ثلاثة أسباب لا رابع لها إذا استبعدت الحوادث:
السبب الأول فطري كضعف في أحد مكونات الجسم سواءً كان في أجهزته المختلفة أو كيمياء الغدد والدم.
السبب الثاني هو ما يتغذى به الجسم من طعام وشراب لتستمر الحياة، أو ما يتناوله الفرد أكلاً أو شرباً كنوع من المتعة والتسلية.
السبب الثالث هو العادات والسلوك اليومي للفرد كقلة المشي والكسل في ممارسة التمارين الرياضية والسهر والتدخين الخ...
فالنظام الصحي الذي يُراد له النجاح يجب أن يجعل من أولويات بناءه البدء بوضع السياسات الكفيلة بدرء مسببات المرض (السببان الأخيران) من طعام وشراب ومن ممارسات ونمط حياة اعتاد عليه الفرد، ذلك أن السبب الأول لا حيلة للمخلوق فيه إلا ما ندر.
ولكن.. هل السلطة في أي دولة يمكنها التحكم فيما يأكل ويشرب الفرد؟ أو يمكنها فرض نمط حياة محدد عليه؟ (متى يبدأ نومه ومتى يستيقظ أو كم يمارس من نشاط بدني في اليوم).
الجواب على السؤالين أعلاه هو: نعم.
ففي ظل الربط الإلكتروني الرائع بين أجهزة الدولة السعودية، وفي ظل القفزة الرائدة في صناعة البرمجيات والتطبيقات الإلكترونية، سيتمكن المركز من تصنيف المواطنين على مستوى الثقافة الصحية إلى (متواكب) و(غير متواكب) من حيث انضباطه في تجنب مصادر المرض من طعام وشراب وممارسات يومية. المتواكب تتم التغطية التأمينية عليه مجاناً وغير المتواكب تتم التغطية عليه بـ 50 % أو أقل.
من شأن هذا التمييز الدفع بأفراد المجتمع إلى تجاوز السلوكيات السالبة للصحة والإتيان بكل ما يعزز من سلامة الصحة العامة من نظام الوجبات نوعاً ووقتاً وأنظمة السبات والمعاش والأنشطة الحركية، كالتعود على تناول الفواكه والخضار والأطعمة العضوية، وتجنب السهر والتدخين والبعد عن الوجبات الدسمة والوجبات السريعة والحذر من تأخير وجبة العشاء وممارسة الأنشطة الرياضية بشكل يومي الخ....
من المرجح أن نظام المركز الجديد -الذي يراه المقال- سيتضمن شروطاً وتعليمات وممارسات يجب على كل مواطن راغب في التأمين الصحي المجاني أن يلتزم بها ويحافظ عليها. من هذه الشروط: في البدايات الأولى للتأمين يُفرض الفحص الدوري الإكلينيكي كل ثلاثة شهور لأجهزة وكيمياء الجسم، فحص تحليلي وإشعاعي وسونار. هذا الرصد الربع سنوي لصحة المريض مع ما يبيح به من معلومات حول تاريخ حالته الصحية وعن عاداته وممارساته اليومية في كل فحص، سيمكن الطبيب ومن ثم النظام من معرفة مدى مواكبته للتعليمات والتوجيهات والنصائح الصحية التي يستقبلها من الأطباء في كل زيارة.
انطلاقاً من تبني مفهومي متواكب وغير متواكب، سيتم التأمين المجاني على كل مواطن حصل على صفة متواكب سواءً كان متواكباً من تلقاء نفسه مع المعايير الصحية طعاماً وسلوكاً قبل التأمين عليه أو أنه تثقف وتواكب بعد أن تلقى التعليمات وأعطي الفرصة للتأمين عليه تأميناً مجانياً في الستة شهور الأولى من بدء التأمين عليه. أما من يثبت عدم مواكبته للتعليمات سينضم تلقائياً إلى قائمة غير المتواكب والتي ستكون التغطية فيها 50 % أو أقل.
وإذا استثنينا من تطبيق الآلية المقترحة أعلاه حالات السمنة المفرطة أو العيوب الخلقية أو حالات أمراض الشيخوخة. إلا أن العائد على مثل تلك السياسات سيكون كبيراً جداً فيما يتعلق بتغيير العادات غير الصحية للمواطن، مما يحقق ديمومة سلامة الصحة العامة وضبط الإنفاق المتزايد على الخدمات الصحية وما يعكسه ذلك من نجاحات في جهود التنمية الشاملة للدولة.
يرتبط بالفقرة السابقة ضرورة تجنيد المركز لكوادر طبية ماهرة في مختلف التخصصات ومن الحاصلين على البورد من مختلف الجمعيات الدولية في ذات التخصص لضبط عملية الموافقة من عدمه حول ما يرد للمركز من آلاف الطلبات من مقدمي الخدمة. والأمر يتطلب عدم القصور في أعداد تلك الكوادر من أجل السيطرة على الضغوط الكبيرة التي تنتظرهم من جراء كثافة الطلبات ومن ثم تمكين كل مواطن من الحصول على الخدمة الصحية التي تناسب حالته.
وكما أن التنمية الشاملة تتداخل جزيئاتها بشكل لا ينفك أبداً، واستكمالاً لممرات المشاة التي بدأت تنتشر في شوارع بعض مدن المملكة، من اليسير على الدولة بدفعها ومساهمة البنوك والقطاع الخاص أن تنشئ في الخمس جهات من كل مدينة كبيرة في المملكة ناديين رياضيين كبيرين للرجال والنساء يشتملا على جميع ميادين ومرافق الرياضة والترفيه برسوم رمزية كما هو معمول به في دول أخرى. ذلك سيسهل من مهمة أن ينال المواطن شرف أن يكون (متواكباً) ليحصل على التأمين الصحي مجاناً، وتتعزز من ثم الصحة العامة للمواطن السعودي.
كما يرتبط بصحة الطعام الذي يتناوله المواطن المعتاد على تناول الوجبات خارج منزله مهام وتكليفات يفترض أن يقوم بها متخصصون مؤهلون في هيئة الغذاء والدواء من حيث المتابعة المستمرة لمكونات الوجبات التي تقدمها المطاعم المختلفة، وتنظيم تلك المهام وتعميم الربط الإلكتروني لكاميرات المراقبة بين المطاعم والهيئة.
بذلك ستنجح الدولة بإذن الله في أن تسجل رقماً قياسياً عالمياً حول خدماتها الصحية كفاءة وكلفة.
** **
- مختص في أنظمة الحكم والسياسات المقارنة
dr.amam59@hotmail.com