مال قلمي في الفترة الأخيرة في «مقالات معدودة» إلى الكتابة عن (الأسماء الثقافية والإبداعية والأكاديمية...) وكل ما أخشاه أن يظن أصدقائي ومن يتابعني في «تويتر» أنني تحولت إلى (كاتب بورتريه) على طريقة «بعض الكتاب» الذين يشعرونني كقارئ أنّ كل همهم ملء الصفحات البيضاء البريئة بالكلمات، حتى ولو كانت باردة وباهتة ومستهلكة لا روح فيها، من أجل التواجد فقط..
حقيقة لا انتقص من كاتب «البورتريه» وكاتب «البروفايل» الصحفي، بل في ذهني.. في هذه اللحظة تدور أسماء مبدعين أجادوا هذا النوع من الكتابة وكانت تطربني مقالاتهم، منهم -على سبيل المثال- عمر المضواحي –رحمه الله- وفي مقدمتهم الكاتب محمد البريدي -رحمه الله- الذي كشف سر تميزه في هذا الجانب بعد رحيله د. أحمد التيهاني بهذه التغريدة:
«حين كتب محمد البريدي -رحمه الله- «البروفايل»، في صحيفة الشرق، علّمنا أن رسْم الهيئة الذهنية للأشخاص أمام القراء، يحتاج إلى قدرتين: إحداهما لغوية، والبريدي أبوها، والثانية «علم نفسية»، وهي بنته أيضًا؛ ولذا أنصح من أراد أن يتعلم فن «البروفايل» أن يعود إلى كتابه: «أسماء على ورق الورد».
نعم.. نعم الكتابة عن الأسماء تحتاج إلى هاتين القدرتين وقبل هذا وبعد هذا.. المقال الذي يأتي على هيئة «قصيدة مدح» يحتاج في هذا الزمن إلى قلم صادق وإنسان قريب..
وحتى لا أقع فيما وقع فيه أحد الزملاء حينما كتب عن «اسم ثقافي» يراه من بعيد كبيرًا (فزوّد المدح حبتين) ووصف ذلك الشخص بالنبل وبالكرم و(بالفزعة) ولما اقترب منه وجده على حد تعبيره: (دجاجة صقعا «لا تهش ولا تنش»)!!
وضعت لنفسي شروطًا ثلاثة -هذا إن كتبت عن الأسماء- وأزعم أنني ملتزم بها فيما مضى:
1- الكتابة عن مبدع اطّلعت على تجربته (من الألف إلى الياء) وتواصلت معه وعرفت نفسيته ومزاجيته وما هو عليه.. فالكتابة على سبيل «المدح» عن الأسماء «المأزومة نفسيًا»، «الساقطة أخلاقيًا»، «فاقدة المرجلة» مهما كان بريقها الإبداعي لا يشرف!!..
2- الكتابة عن شهمٍ علّق على جيد السماء مواقفه الإنسانية ورقصت له الحروف والقصائد طربًا..
3- الكتابة عن زميلٍ له أثر عرفته عن قرب وعرفت سرّ أثره..
اليوم في هذه الورقة البيضاء اتجهت خيول الكلمات المحملة بالعطر إلى أحد هؤلاء وهو الصحفي الكبير، الزميل الأصيل, الذهب الذي يلمع فوق الغيم: سعود العتيبي.
كيف لا أكتب عن (سعود العتيبي) وهو الذي علّمني وعلّم غيري (ألف باء الصحافة) وعلى مدى عقد من الزمن كنت أتتلمذ وأتعلم في مدرسته الصحفية الكبيرة, وما بين قلبه الأبيض الذي تسكنه الورود الحمراء والسحب الزرقاء وقلمه الأزرق الذي يسكب العطر وينثر البياض أتأمل النقاء والجمال..
سعود العتيبي الذي يهرب من الأضواء وينشر النور والورد في المكان الذي يحل فيه ويطل منه..
على مدى عشر سنوات وأكثر قضيتها في مبنى مجلة اليمامة كان مكتبي أقرب المكاتب إلى مكتبه لا يفصل بيننا إلا حاجز قصير ونافذة زجاجية «تسر الناظرين»، وكنت عندما انتهي من إعداد الصفحات (الثقافية) التي أشرف عليها, أدخل دون استئذان إلى مكتبه من الباب المفتوح للجميع على رائحة القهوة والشاي وعلى رائحة الورق وصرير الأقلام..
أجلس وأراقب تصرفاته وأنا احتسي الشاي المعطر بالنعناع على (كنب) أسود فاخر وهو منهمك في تعديل البروفات وفي اختيار «المانشيتات» وفي كتابة المقدمات للحوارات والتحقيقات الصحفية..
يكاد يتكرر هذا الموقف يوميًا: يضحك فجأة وهو منهمك من عبارة وردت في مقالة أو من عنوان لمقالة ساخرة أو من سؤال ساخر..
يناديني: (تعال تعال يا بدوي شوف الخبل ذا وش كاتب!!) يكمل ضحكته وكلماته: رهيب رهيب!!
بالمناسبة لا أدري من منا الأكثر بداوة، فهو من «الروقة من عتيبة وأنا من الشلالحة من مطير» جمعتنا الصحافة والبداوة واللهجة والمحبة.. المحبة التي لا تخلو من مشاكسات أعنفها: ألطف من النسمة الباردة!!. فحين تبدأ شرارة المشاكسة بينه وبيني يبدأ يقصفني في مكتبه بحضور سعدالله العتيبي وعلي العتيبي, وعبدالرحمن حمد العتيبي، أحيانًا بأبيات شعراء القلطة: (خلف بن هذال، وحبيب العازمي، ورشيد الزلامي، ومطلق الثبيتي..) ولا أملك وقتها إلا أن أقاومه وأوجهه وأقصفه بأبيات: (خليف بن دواس، وشليويح بن شلاح، وتركي الميزاني، وعبدالله العير..) ولا يفك اشتباكنا الناريّ القصير إلا الضحك مما قال ومما قلت..
كنت أتفوق عليه بحفظ القصائد الشعبية المحلية, وبالمحاورات الشعرية وكان يتفوق علي ويذهلني بحفظه لنصوص (الرحابنة ) كما يحفظ اسمه؛ وهذا قد لا يكون مستغربًا لأنه (طلاليّ الهوى) (فيروزيّ الهوى) أيضًا. ولكن الذي يذهلني ويدهشني أكثر وأكثر.. ولم أجدها عند غيره «ذاكرة نادرة» تحفظ مطولات من «الزجل اللبناني» ومقاطع مسرحية شامية, وأشعار شعبية مصرية..
هذه الذاكرة الممتلئة بالشعر وبالفن وبالجمال هي من جعلته على مدى عمله الصحفي الطويل كمدير تحرير لمجلة اليمامة يستوعب ويجيز النصوص «الحداثية» الحصرية التي كانت تنشرها المجلة ويتلذذ بنصوص المبدعة الكبيرة د. فاطمة القرني، ويرقص طربًا للغة الشاعرية والعبارات الفاتنة في المقالات وفي الحوارات الثقافية..
وبصرامة صحفي «متزن» كان يمنع نشر المقالات الركيكة والحوارات الضعيفة والمواد التي لا تجذب القارئ مهما كانت المحاولات..
وبحسّ صحفيّ وشاعريّ قلّ نظيره كان «يتسلطن» وهو يقرأ المواد الصحفية ويجيزها.. كمن يستمع أغنية مذهلة, أو يتأمل قصيدة رائعة, أو يشاهد لوحة فاتنة.. إذا «مخمخ» في مكتبه على يمامته وعلى الإبداع الصحفي وعلى الأسئلة الإبداعية وعلى الإجابات الخارجة عن المألوف بالذات في الزاوية الشهيرة (خمسين في خمسين) الزاوية التي كان يجد فيها متعته..
وبمهارته العالية وخبرته الصحفية كان يقتنص «المانشيتات» الجذابة ويقترحها للزملاء ولا أظن أحدًا يجاريه في هذه المهارة.. ويبقى في نظري أدق من يكتشف الأخطاء المطبعية ممن أعرف, كنت أقرأ الصفحات التي أعدها قبل تسليمها له وأنا على ثقة بأنها سليمة خالية من الأخطاء، وأتفاجأ بأنه اكتشف من القراءة الأولى أخطاء مطبعية لم اكتشفها ولم يكتشفها «المصحح اللغوي» أهونها (همزة وصل) تحولت إلى (همزة قطع) وأخطرها كلمة سقط منها حرف أو اعتلتها نقطة فتحولت إلى كلمة خادشة للحياء!!.
في تويتر عرّف نفسه بهذه العبارة «أنا من ضيّع في الإعلام عمره» لا أدري لماذا كتبها؟!
وهو الذي لا يضيع من سار على ضوء قلمه الذهبيّ وعلى طريقه المفروش بأزكى زهور الفن والرقي.
ولا أدري لماذا كتبها؟! وهو صحفي يشعر من زامله ومن يعرفه عن قرب أنه ولد وفي فمه ملعقة من صحافة.
يستوقف الكل بفكره الصحفي وكانت تستوقفني فرحته وتفاعله مع (الخبطات الصحفية) يطيّر من يأتي بها من الزملاء في السماء ويغمره في اجتماع أسرة التحرير بالثناء والمدح عندما كان مبنى اليمامة عبارة عن خلية نحل واجتماع أسرة تحريرها له هيبته بإشراف د. عبدالله الجحلان وبحضور الزملاء: (فهد العبدالكريم –رحمه الله- حادي العنزي، يوسف المحيميد، إسحاق عمر (أبوعلاء)، عمر أبوراس، شقران الرشيدي، عبدالوهاب الوهيب، أحمد المحيميد، عمرو الضبعان، سعود القحطاني، طارق المنصور، عبدالعزيز الشعباني، والقائمة تطول وتتجدد..)
أتذكر مرة قال لي: بعد أن قدمت له مادة صحفية خفيفة حازت على إعجابه - بعد هذا الشغل الصحفي الجميل، لو قدرت تجيب لنا حوارًا لزاوية (خمسين في خمسين) مع (النجم الفلاني) «عليّ بالحرام» لأجيب لك ذبيحة!!
يغريني «بالذبيحة» وقتها لأن موضوع زيادة المكافأة لم يكن بيده، وأنا مكافأتي كمتعاون بفضل الله بدأت تقترب من ربع راتبه.
وأمام هذا الإغراء.. وبعد هذا التحدي تواصلت مع الضيف مباشرة بعد خروجي من مكتب سعود وكشفت للضيف عن (الحكاية) فوافق وهو يضحك.. وأتيت بالحوار بعد أسبوع في المجلة، وأتى لنا سعود بالذبيحة بعد شهر في مزرعة راشد بن جعيثن..
أوردت هذا الموقف الطريف لتعرفوا كيف كان يحرص «الصحفي الكبير» على التميز وعلى المادة الجاذبة للقارئ وبروحٍ ممتزجة بالجاذبية.. وإليكم موقفا آخر لتعرفوا من هو (سعود العتيبي) الذي أكتب عنه:
لمّا شَعَرَ أن راتب أحد الزملاء لا يتوازى مع الجهد الصحفي الذي يقدمه نزل من مكتبه إلى إدارة المحاسبة في المؤسسة بخطاب كتبه بيده وقال: اخصموا من راتبي هذا المبلغ وحولوه إلى حساب الزميل (فلان) زيادة في راتبه حتى يتقاعد..
سعود العتيبي بطوله الفارع الشامخ وبشجاعته الصحفية المتزنة كان يشعرنا أن مهمته في مجلة اليمامة رفع السقف إلى السماء، وكان يواجه كل من يعترض على نشر مادة صحفية «مختلف عليها» (ياخي ما فيها شيء)!!
ما قبل مرحلة فهد العبدالكريم كان سعود العتيبي الساعد الأيمن للدكتور عبدالله الجحلان، وفي الغالب كان الجحلان يوجه المتدربين ومن لديه الرغبة بالتعاون مع المجلة إلى سعود، كنت وأنا الذي ما زلت أتعلم في هذه المدرسة أراقبه من النافذة وهو يشرح للمتدربين وبعضهم خريجي إعلام من جامعة عريقة الفرق بين (المقال، والحوار، والتحقيق، والتقرير، والاستطلاع..) ويمطرهم بالنصائح والتوجيهات ويكلفهم بمهام ..
أما عن علاقة سعود العتيبي بفهد العبدالكريم –رحمه الله- فهي أكبر من كل الكلمات وأوضح من الشمس في رابعة النهار, على مدى عقدين من الزمن كانا «فهد وسعود» عينين في رأس واحدة، جمعهما الحب والنقاء والمنصب الإداري..
ظهر جليًا هذا الحب وهذا الانسجام عندما تسلم الأستاذ فهد العبدالكريم –رحمه الله- رئاسة تحرير مجلة اليمامة في المرحلة الصعبة التي بدأ فيها مؤشر الإعلانات يدق ناقوس الخطر وينذر بإغلاق الصحف الكبرى، لكن فهد العبدالكريم –رحمه الله- وسعود العتيبي ومن يعمل معهما، وفي مقدمتهم سعدالله العتيبي مدير الملاحق والإصدارات, والصحفي السوداني المخضرم «إسحاق عمر» قفزوا باليمامة المتنوعة بأبوابها قفزة حقيقية وشهدت هذه المرحلة القصيرة إصدارات مليونية، بل شهدت المجلة أضخم إصدار منذ تأسيسها تجاوزت رعاياته حاجز المليونين والسبع مئة ألف ريال, وهذا رقم كبير لمجلة ليست ربحية, ودليل كبير على تحليق اليمامة في هذه المرحلة الصعبة, ودليل أيضًا على ذكاء فهد العبدالكريم –رحمه الله- الإداري وعلى الأجواء الصحية وعلى العمل الاحترافي..
كان تركيز فهد العبدالكريم في هذه المرحلة الصعبة ينقسم ما بين متابعة المواد التحريرية ومتابعة الرعايات والإعلانات، كما أن رفيق دربه وساعده الأيمن سعود العتيبي كان معه يراقب «البستان اليماميّ» ويديره ويزرع الورد ويسقي الأزهار وينشر الجمال.. ولعل أوضح علامات نجاح هذه المدة وصول فهد العبدالكريم إلى كرسي رئاسة تحرير جريدة الرياض وإشرافه على المطبوعتين بكل اقتدار ونجاح.
لا أعرف كيف أصف ملامح سعود عندما تلقى خبر مرض رفيق دربه المفاجئ وعرف ماهية مرضه، ولا أعرف كيف كنا نتلقى جرعات الحزن في مكتبه ونقاوم الدموع عندما تلقى صديقنا القريب وأستاذنا النبيل جرعات الكيماوي..
لكن لتعرفوا مقدار هذا الحب..
بعد سنة من رحيل فهد العبدالكريم –رحمه الله- المفجع والموجع يقول لي سعود في دردشة حزينة -وهو يفضفض لي عن حزنه-: (والله بعد هذا الرحيل الموجع لم أستطع المرور بجوار مكتب فهد، أدخل إلى المبنى من باب آخر غير الذي اعتدته؛ لكي لا تداهمني وأنا في طريقي إلى مكتبي أمواج الذكريات وعواصف الحزن..) يا الله يا الله..
هذا بعض ما لدي عن الفارس النبيل, الشهم الكريم الذي ترجل عن جواده الصحفي قبل أيام وهو في قمة شموخه..
وليعذرني من يعرفه.. إذ لا أستطيع جمع السحابة في زجاجة عطر؟!
فقط أقول في نهاية هذا المقال ليت أستاذنا الذي علمنا تأمل الحرف يوثّق تجربته في كتاب، فسيرته الصحفية الثرية وتنقلاته من «الرياض إلى المسائية إلى الرياض إلى اليمامة» ومزاملته للأساتذة الكبار و(خبطاته الصحفية) وقربه من البيت الهلالي ومن مؤسس نادي الهلال عبدالرحمن بن سعيد ومن رئيس الهلال السابق عبدالله بن سعد ومن نجوم الهلال القدامى والكثير من الذكريات الرياضية والصحفية تستحق أن توثق..
** **
- عبدالعزيز بن علي النصافي