إعداد - صبار عابر العنزي:
على امتداد كتب التاريخ لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل بهذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردي الواضح وقدرتهم على الاندماج بجماعتهم فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورهم، تقديراً لأدوار فردية صنعت أمماً وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ...
وعلى امتداد مساحة بـ«شخصيات تاريخية» نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدواراً عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر في مجتمعاتهم، وربما بالعالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم...
فقد كان الرئيس أحمد بن بلة يحظى بجاذبية كبيرة ويعد أحد رموز حركة مناهضة الاستعمار العالمية ويعد واحداً من الزعماء الكبار الذين عملوا في إطار دول عدم الانحياز.
وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن بن بلة كان أحد زعماء حرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا، فهو واحد من ست قادة رئيسيين يذكرهم تاريخ الجزائر في الكفاح من أجل الاستقلال عن فرنسا وهو أول رئيس وزراء للبلاد، وأول رئيس منتخب للجمهورية الجزائرية بين عامي 1963 و 1965م.
النشأة ومسيرة حافلة بالكفاح
ولد أحمد بن بلة في مغنية غرب الجزائر في الخامس والعشرين من ديسمبر 1916م لعائلة مزارعين أصلهم من المغرب والتحق في شبابه بالجيش الفرنسي الذي رقي فيه إلى رتبة ضابط لكنه بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية ضابطاً في الجيش الفرنسي، بدأ يضيق بالحكم الاستعماري لبلاده وتمرد عليهم وفي أبريل 1949م نظم غارة على مركز البريد الرئيسي في وهران لتمويل أنشطته الثورية، ما رفع أسهمه بين الشعب الجزائري بعد أن تم اعتقاله عام 1950م وسجن بالقرب من البليدة لكنه تمكن من الهرب بعد سنتين...
وبدأ في التخطيط من القاهرة لثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954م التي أطلقت شرارة حرب التحرير الجزائرية التي استمرت ثمان سنوات...
مواقفه الوطنية ونضاله المبكر
ونظرًا لمواقفه الوطنية ونضاله المبكر، وهو في سن الـ16 من عمره، وانتقاده لأساتذة التاريخ والعلوم الاجتماعية الذين كانوا يشوهون التاريخ الوطني، منعته السلطات الفرنسية من متابعة دراسته، وأجبرته على التجنيد بصفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، وكان حينها ناشطاً ضمن حزب الشعب الجزائري، وتدرج بالمناصب العسكرية فنال وسام صليب الحرب...
لم تكن مشاركته بالحرب العالمية الثانية مجبرًا، هي المرة الأخيرة، حيث لم تتركه السلطات الفرنسية، وتم استدعاؤه مرة أخرى للمشاركة بحرب الفرنسيين والحلفاء ضد إيطاليا وألمانيا ضمن مجموعة من المغاربة، وضمن الكتيبة الخامسة للقناصين، حيث حمل رتبة رقيب أول ثم مساعد، كما اشترك في معركة مونتى كاسينو، وقد قلده الجنرال ديجول الميدالية العسكرية بعد تحرير روما عام 1944م وكان الوحيد الذي يحصل على أعلى وسام في فرنسا...
أهم المحطات في تاريخ كفاحه
حين اختطفت الطائرة المغربية التي كانت تقله من الرباط إلى تونس في 22 أكتوبر عام 1965 مع أربعة مرافقين آخرين حيث هبطت في مطار البيت الأبيض بالجزائر العاصمة، وقبض عليه مباشرة وأودع في السجن حتى انتهاء مفاوضات إيفيان بعد نحو سبع سنوات...
ثمان سنوات في قلعة فرنسية
قضى ثمان سنوات في قلعة فرنسية خلال حرب التحرير الجزائرية، وكانت المطالبة بالإفراج عنه من ضمن المطالب خلال مفاوضات الاستقلال والتي توجت باتفاقات إيفيان عام 1962 بين جبهة التحرير الوطني الجزائرية وفرنسا...
تأسيس حكومة جزائرية مؤقتة
عام 1958م أعلن تأسيس حكومة جزائرية مؤقتة في المنفى، ترأس المجلس الوزاري فرحات عباس وكان بن بلة ومحمد بوضياف نائبين لرئيس الحكومة، وفى عام 1959م بدأت المفاوضات بين جبهة التحرير والجنرال ديجول، وبعد العديد من المفاوضات بين الطرفين تم التوصل لاتفاقيات إيفيان، وتم البدء بوقف إطلاق النار وتم الإفراج عن القادة المسجونين وبن بلة، ثم الاستقلال عام 1962م..
قيادة البلاد
تولى قيادة البلاد بعد الاستقلال وحتى الإطاحة به في انقلاب عسكري على يد رئيس أركانه هواري بومدين عام 1965م وبعد ذلك خضع للإقامة الجبرية حتى عام 1980م عندما أفرج عنه الرئيس الجزائري، آنذاك، الشاذلي بن جديد، ثم ذهب إلى المنفى في سويسرا حتى عودته إلى الجزائر عام 1999م وأسس حزباً بعد إطلاق سراحه أسماه الحركة الديمقراطية بالجزائر، وشارك في الانتخابات التي شهدتها الجزائر عام 1991 والتي ألغيت نتائجها، وفاز فيها الحزب بـ 2 في المئة من أصوات الناخبين...
وكان بن بلة يثق ثقة عمياء في وزير دفاعه هواري بومدين، فهذا الأخير هو الذي نصّب بن بلة على رأس الدولة الجزائرية الفتية وهو الذي مهّد له الطريق باتجاه قمة هرم السلطة، ولم يكن بن بلة يتوقع أن تأتيه طعنة من صديقه هواري بومدين، الذي أطاح بأحمد بن بلة بانقلاب باعتباره خرج عن خط الثورة الجزائرية واستأثر بالسلطة وكان يتهمه بالديكتاتورية والشوفينية وكان يأخذ عليه احتكاره لتسعة مناصب حساسة في وقت واحد، وكان بومدين يزعم أنه لجأ إلى الانقلاب إنقاذاً للثورة وتصحيحاً للمسار السياسي وحفاظاً على مكتسبات الثورة الجزائرية...
وغداة الانقلاب عليه وضع في فيلا خاصة في منطقة شبه معزولة ولم يسمح لأحد بزيارته، ولم تجد تدخلات الرئيس جمال عبد الناصر الشخصية في إطلاق سراحه، وذهبت سدى كل المحاولات التي قام بها رؤساء الدول الذين كانت تربطهم بابن بلة علاقات صداقة، وعن فترة اعتقاله التي استمرّت 15 سنة قال أحمد بن بلة إنّه استفاد من أجواء العزلة واستغلّ أوقاته في المطالعة والقراءة حيث بدأ يتعرف إلى الفكر الإسلامي وغيره من الطروحات الفكرية، وقد تزوج وهو في السجن من صحافية جزائرية تعرفت عليه عندما كان رئيساً للدولة الجزائرية...
يؤمن بعروبة الجزائر
كان يؤمن بعروبة الجزائر ولذلك قام باستدعاء آلاف الأساتذة العرب من مصر والعراق وسوريا والمملكة العربية السعودية للمساهمة في قطاع التعليم، وقد اصطدم هؤلاء التربويون العرب بمجموعة كبيرة من العراقيل البيروقراطية والتي كان يضعها في طريقهم سماسرة الثقافة الفرانكفونية واختار العديد من هؤلاء المتعاونين العودة إلى بلادهم وبذلك تمّ الإجهاز على مشروع التعريب الذي ما زال متعثراً إلى يومنا هذا...
ورغم إيمانه بعروبة الجزائر إلا أنّ بلة كان مهووساً بالفكر الاشتراكي اليساري وكان متحمساً لبعض التجارب التي كانت سائدة في البلاد الاشتراكية، وتحمّسه للفكر الاشتراكي واليساري جعله يصطدم بالرجل الثاني في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ البشير الابراهيمي الذي ورث خلافة الجمعية من الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أدركته المنيّة قبل اندلاع الثورة الجزائرية، وفسّر البعض ذلك الصدام بأنّه بداية الطلاق بين النظام الجزائري والخط الإسلامي الذي كانت تمثله جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الابراهيمي. وبدأ الطلاق عندما اتهم الابراهيمي الرئيس أحمد بن بلّة بتغييب الإسلام عن معادلات القرار الجزائري وذكّر بن بلة بدور الإسلام في تحرير الجزائر والجزائريين من ربقة الاستعمار الفرنسي..
ومثلما دخل في صراع مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد دخل في صراع آخر مع رفاق دربه بالأمس، حيث شعر العديد من مفجرّي الثورة الجزائرية أن البساط قد سحب من تحتهم وأنهم باتوا بدون أدوار في مرحلة الاستقلال.
حظر حزبه عام 1997
لكنه واصل العيش في الجزائر وغالباً ما كان يدين السياسات الحكومية وكان حاضراً عندما نصب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لولايته الثالثة في أبريل/نيسان 2009م وترأس بن بلة منذ العام 2007م مجموعة العقلاء في الاتحاد الأفريقي وأدخل إلى المستشفى العسكري في الجزائر العاصمة، عين النعجة، مرتين خلال شهر مارس 2012 بعد تعرضه لوعكات صحية...
زوجته زهرة سلامي
زهرة سلامي ( 1935 - 23 مارس 2010 ) صحفية ونشطة سياسية وزوجة أول رئيس للجمهورية الجزائرية أحمد بن بلة بدأت حياتها المهنية كصحفية بالمجلة الدورية «الثورة الأفريقية» الصادرة بالجزائر التي كانت تُعد آنذاك لسان حال جبهة التحرير الوطني. عرفت بمعارضتها لنظام الحكم الجزائري...
غير أنها قبلت بالزواج بأحمد بن بلة الرئيس المخلوع والمسجون ورافقته في السجن والإقامة الجبرية توفيت في 23 مارس 2010 بباريس ونقلت إلى أرض الوطن في نفس اليوم، وقد حظت جنازتها بحضور رسمي لافت على رأسه الرئيس بوتفليقة تكريماً وتنويهاً بمسارها الثوري والعائلي, دفنت في مقبرة العالية بالجزائر العاصمة..
من أقواله الخالدة
من أقواله الخالدة في وجدان التاريخ «لم يكن سواه رفيقي في كل الفترات التي قضيتها في السجون، إنه القرآن الكريم» وكذلك قوله «أرفض حكم الفقهاء وأنا مجرد مواطن جزائري».
صرح بن بلة «إن هذا البلد الجميل الذي عاش سبع سنين من الحرب وفقد مليون شهيد، الذي لا تزال جراحه دامية وشعبه يعاني من الفقر, سيعيد بناء نفسه على أسس جديدة من أعلاه إلى أسفله, أتمنى أن أمنح الوقت لفعل ذلك». قالها بن بلة في 19 يونيو 1965 قبيل الانقلاب عليه..
وقد قال عنه «الجزائريون يبكون اليوم رجلاً عظيماً أضاء بحكمته وبصيرته الطريق إلى الحرية وبناء دولة الجزائر». عبد العزيز بوتفليقة - الرئيس الجزائري...
«لقد كان ابن «بلة» قائداً فذاً ومجاهداً صلداً وبطلاً شجاعاً في مقاومة الاستعمار». نعي الجامعة العربية...
الرئيس التونسي أن «المغرب الكبير كما الأمة العربية فقدا أحمد بن بلة، أحد رموز العالم الثالث».
«كان رجلاً طيباً فوق الطيبة في حد ذاتها ونظيف اليد، فلم يشهد له أنه سرق أموال الشعب... لذلك نعترف له بالجميل». القائد الأسبق لهيئة الأركان العقيد الطاهر زبيري.
رحيل الزعيم أحمد بن بلة
في 11 إبريل 2013م رحل عن عالمنا أحمد بن بلة في الجزائر عن عمر يناهز 96 عاماً بعد إصابته بوعكة صحية، استطاع خلال عمره أن يوثق من خلال الكتب كل لحظات نضاله، منها « خطاب التوجيه - المؤتمر الأول للحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر- باريس 1984»، و«حول الإسلام والنظام العالمي الجديد 1989»، «أي دور للإسلام في ولادة العالم الجديد 1989م و«الإسلام والثورة الجزائرية 1989م»...