القيمة إدراك إنساني لما يجب أن يكون عليه الوضع المثالي الأنسب لوجوده، هي ترتبط بالتجربة الإنسانية فالقيمة تجربة، والأدب اكتناز للتجربة، فما الأدب إلا تعبير عن تجربة إنسانية وفي اللحظة التي نفكر فيها حول ماهية الكتابة وما يحققه الأدب نكون قد دخلنا على منطقة قيمة الأدب للإنسان، وقيمته الجمالية التي يستطيع من خلالها تلقيه والوعي برسالته.
محمد العلي، الشاعر الذي نعرفه جميعا، نعرفه من نصوصه الشعرية وكتاباته النثرية (لم أسعد بلقائه من قبل، غير أنني ألتقيه في نصوصه التي أعرفها وفي تجربته الكتابية التي أتابعها) ألتقيه عبر لغة شديدة الحساسية تجاه فعلها وما ترمي إليه من معان، وقد أكد هو ذلك في إشارته لعلاقته باللغة وحساسيته تجاهها: «أنا لدي إحساس لغوي طاغ، لدي إحساس باللغة مثلما هو حس الكلب لشم الأشياء، إحساس يتجلى فيما يكتب شعرا أو نثرا، كاشفا عن خبرة باللغة وحساسية من نوع خاص بممكناتها.
اللغة ملك للجميع، مثلها مثل المال والعقل والصحة وغيرها مما هو متاح للجميع، تختلف نسبة الامتلاك لكن المفردات واحدة، الفاصل الحاسم بين ممتلكي اللغة في توظيفها، واستخدامها بما يخدم القيمة، بما يحقق منها عائدا إنسانيا.
محمد العلي في مقالاته وفي أشعاره مستثمر للغة في اكتنازها المعرفي والجمالي منطلقاً من مفهومه للغة، وإدراكه العميق لما هي عليه:
«اللغة شجرة تتلازم أوراقها مع نضج الوعي فإذا تغير الوعي تغيرت أوراق الشجرة» في مقالاته أنت أمام نحات للغة يدرك كيف يديرها، فالقضية ليست في امتلاك الشيء وإنما في إدارته، الامتلاك لا يعني كونك عبقرياً فنحن نرث الكثير من الأشياء دون أن تدل واحدة منها على مستوى تفكيرنا أو حتى مجرد أننا بذلنا قدرا من الجهد للوصول إليها، ولكن الإدارة تعني أننا خططنا وأعملنا العقل وصولا إلى أهدافنا .
في مقالاته يحول محمد العلي اللغة إلى عالم من المعاني القادرة على استقطاب متلقيها عبر أسلوبها الموجز أحيانا فالإيجاز نوع من الاقتصاد اللغوي الكاشف عن جدارة الكاتب بالتميز لكونه يدير اللغة الكافية لأن يقول ما يريد في عدد محدود من الكلمات (كل المقالات الصحفية للأستاذ محمد العلي تؤكد هذا التوجه الخلاق ناهيك عن الصور الشعرية ذات التوجه الأصيل).
يصنع الكاتب نظامه اللغوي الخاص منتجا بصمته الأسلوبية جاعلا من اللغة تقنية وليست موضوعا، حيث اللغة في حال اشتغالها وديناميكية طرحها.
يمكننا بسهولة مكاشفة مجموعة من الطرائق المعتمدة لإنتاج إنسانية اللغة، عند الكاتب:
1- أسلوب الصياغة القائم على بلاغة الاختيار: فالبلاغة في مقومها الأساسي تقوم على مبدأ الاختيار، أن تختار المفردة وصياغتها وموقعها فأنت قادر على تطويعها صناعة للبلاغة، وما لا تملك الاختيار في صياغته لإبلاغة لك فيه، وفي مقالاته كما في نصوصه أنت أمام قدرة حقيقية على تطويع اللغة ارتكازا على مخزون استراتيجي من الثقافة وهي عملية تفسرها مقولة مرجعية أصيلة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» على حد تعبير النفري.
2- بلاغة الاتصال حين تقوم اللغة على إنتاج كيان معرفي، فالاتصال الحقيقي يتأسس على مساحة مشتركة من المعرفة، معرفة المتلقي الذي يشاركك الدراية باللغة أولاً، وبقوانينها ثانياً، عندها يمكنك أن تبث على موجة مشتركة لمتلقيك، المعرفة المشتركة هنا نقطة التقاء ودائرة أولى تمنح الكاتب الفرصة ليقدم معارفه المتوالية، معرفة المضمون، معرفة الطرح، معرفة القضية، معرفة الدلالة، وجميعها تنبني على الدائرة الأولى ومع كل دائرة معرفية يكون المتلقي في موقف من موقفين:
- موقف العارف بالعلامة المطروحة عبر اللغة: وهو ما يتمثل في مجموعة من العلامات الواردة في صور الشاعر، أو مقالات الكاتب وهي شبكة كبرى من العلامات اللغوية بالأساس تشمل: الإنسان (حسين شاهين مثلا في قصيدة «ياليل ياعيني» - عروة بن الورد في قصيدة «كنت تقرأ شعراً» - المتنبي، المكان (النيل- الدمام - دارين - البحر - الفرات - الخليج - مصر – برمانا وغيرها مما يبدو معروفا للمتلقي لكنها قدرة الكاتب على أن يقدم مانعرف كما لا نعرف (حيث يعيد توظيفه وإنتاج دلالاته جماليا)، كما يقدم لنا مالا نعرف كأننا نعرف (حيث تبدو الأشياء معروفة، مألوفة وفق طريقة الشاعر في تقديمها وجعلها كذلك).
- موقف غير العارف بالعلامة أو عارفها دون تذكرها بصورة أقوى مما يفتح له الكاتب آفاق للمعرفة القائمة على البحث، في مقالته بعنوان «حديقة الأساطير» يطرح الكاتب مجموعة من المعارف، معرفة مضمون المقالة، معرفة الأشخاص المذكورين في تضفيرة شديدة الثراء (فراس السواح - جان جاك روسو- فؤاد زكريا - زكي نجيب محمود- الغزالي - السياب - عشتار) محركا المتلقي عبر الثقافات (الشرقية والغربية) قديمها وحديثها ومنتجا ما أسميه سردية خارج النص، فلكل من الأسماء المذكورة تاريخه وقصته، والمتلقي حين لا يكون على معرفة بأي من هؤلاء تسقط منه مساحة مؤثرة في التلقي وصولا لما يتغياه الكاتب مستهدفاً تحقيقه.
3- الحركة في دوائر الاشتغال بالثقافة العربية، وهي سمة موسوعية توسع من مدارك المتلقي وفق منظومة الكاتب/ الشاعر في تخصيبه خيال متلقيه بما يبثه من قضايا عبر وسيط لغوي قادر على نقل فكر الكاتب بطريقة تمتلك قدرا من التشويق الدافع للمتابعة (يحدث معي شخصيا الحرص على متابعة كل مقالات الكاتب المتاحة عبر الانترنت عامة أو موقع صحيفة اليوم وغيرها من المواقع الإعلامية).
4- القدرة على طرح الأسئلة، أسئلة الوجود والذات والثقافة والتاريخ، حيث كتابات الشاعر تفتح لنفسها المجال الوسع لمواجهة كل القضايا الإنسانية، إنه بعد خاص بقلم يعرف مواضع اشتغاله ومواطئ أقدامه ومساحات اهتمامه مشاركا متلقيه كل ذلك بوصفه قريبا منه شاعرا بمساحات الاهتمام ومشاغل الوجود.
** **
- د. مصطفى الضبع