د.محمد شومان
تحليل المحتوى الإعلامي سواء كان نصوصًا مكتوبة أو صورًا أو أفلامًا أو رسومًا أو موسيقي يمثل مبحثًا بالغ الأهمية في دراسات الإعلام، لأنه يفترض أن يقود إلى فهم وتقدير قوة عملية التأثير الإعلامي وطبيعته، ومع ذلك ظلت أغلب بحوث تحليل المحتوى الإعلامي - من وجهة نظر نقدية حديثة - غير دقيقة، وجزئية، لأنها لا تزال تركز على النص المكتوب، وتتعامل مع الصور والأفلام والفيديوهات بنفس قواعد تحليل النصوص المكتوبة، وذلك على الرغم من سيادة الصور للمشهد الإعلامي، ثم ثورة الويب 2 ووسائل التواصل الاجتماعي، وقصور أدوات التحليل المتعارف عليها عن الإمساك بحياة المحتوى الإعلامي، علاوة على عدم قدرتها على فهم العلاقات المعقدة بين النص والصورة، ثم علاقة ذلك بعمليات التلقي، أي استقبال وفهم الجمهور لما يقدم له، واشتراكه في إنتاج وتوزيع المحتوى، عبر وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال.
والمقصود بحياة المحتوى أو الخطاب، عملية الإنتاج والتوزيع والتداول والاستقبال أو الاستهلاك ومن ثم التأثير، وعلاقته بالسياق الاجتماعي أو المستوى الكلي أو الماكرو، لأنه من دون تحليل هذه المراحل يظل أي تحليل ناقصًا ومبتورًا، ومحدودًا في الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها. وبالتالي هناك حاجة إلى تطوير أساليب تحقق التحليل المتكامل للمحتوى، وهو ما يمكن وصفه بدورة الحياة الكاملة للمحتوى الإعلامي، وهذه الدورة أصبحت بالضرورة متعددة الوسائط Multimodality.
وبشيء من التبسيط يقصد بدراسة الوسائط المتعددة الاهتمام بالتفاعل بين الأنماط المختلفة لتمثيل الواقع، على سبيل المثال، بين الصور والكلمات المكتوبة - المنطوقة. وتتوسط التمثيلات متعددة الوسائط الطرق الاجتماعية والثقافية التي يتم من خلالها دمج هذه الأنماط في عملية الاتصال ودراسة كيفية صنع المعاني، وفي الواقع يتم صنعها في سياقات محددة، بوسائل مختلفة للتعبير أو « أنماط سينمائية» سواء تم التعبير عنها بواسطة الجسد (الكلام، الحركات، تعابير الوجه، الإيماءات وما إلى ذلك) أو مع مساعدة الأدوات والمواد (الكتابة والرسم وصنع الموسيقى وما إلى ذلك). وبهذا المعني فإن دراسة تعددية الوسائط لا تقتصر على «الوسائط المتعددة» بمعنى الوسائط الرقمية المعاصرة، ولكنها تنطبق أيضًا على الاتصال وجهًا لوجه وأنواع النصوص غير الرقمية الأخرى.
وقد جاء التحول من النص المجرد إلى الصور التي انتشرت في العصر الرقمي، لكي تصف تعدد الوسائط في الممارسات الاتصالية من حيث الموارد النصية والسمعية واللغوية والمكانية والمرئية المستخدمة في تكوين المحتوى.
في ضوء هذه التحولات يمكن القول إذن إن تحليل المضمون أو حتى تحليل الخطاب أو استخدام استبيان لسؤال عينة من الجمهور عن آرائهم أو موقفهم من المحتوى الإعلامي، كل هذه الأدوات لا تحقق المطلوب، لأنها تبحث في جوانب محدودة من حياة المحتوى أو الخطاب، كما أن أغلبها يركز على التعامل مع تحليل الصور والأفلام والموسيقي إضافة إلى النصوص المطبوعة، رغم الفروق الهائلة بينهم. من هنا ظهرت أفكار واجتهادات جديدة منها استخدام المنهج الاثنوغرافي، والملاحظة بالمشاركة، ومجموعات النقاش التي تضم أفرادًا من الجمهور والصحفيين، إضافة إلى إجراء تحليل كمي وكيفي للمحتوى الإعلامي، يشمل الشكل والألوان والموسيقى والمضمون وبحيث يراعي تعددية الوسائط وتشابكها، وتعدد منتجي المحتوى الإعلامي، ويتم ذلك باستخدام برمجيات حديثة، جنباً إلى جنب مع جهود الأشخاص وخبرتهم، من أجل الوصول إلى نتائج تجمع بين المؤشرات الكمية والنوعية أو الكيفية، وذلك بهدف معرفة:
1- تأثير الممارسات المهنية والعوامل الشخصية للصحفيين أو منتجي المحتوى على الخطاب الإعلامي.
2- كيفية استقبال وفهم قطاعات مختلفة من الجمهور لهذا الخطاب الإعلامي.
3- أهمية هذا الخطاب لكل من الصحفيين ومنتجي المضمون الإعلامي والجمهور.
4- أنماط تفاعل الجمهور مع هذا الخطاب، ولا سيما أن وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت تتيح التفاعل اللحظي وإعادة توزيع المضمون وتعديله أو إنتاج وبث نصوص جديدة مرتبطة بالخطاب الأصلي، ويقصد به الخطاب الذي تم نشره في البداية ودارت حوله هذه التفاعلات.
5- مدي دقة الخطاب الإعلامي في نقل وتمثيل الواقع، وقد احتل هذا الموضوع أهمية كبيرة بعد انتشار المضامين والأخبار المزيفة Fake news.
6- ما وراء النصوص، بالتركيز على السياقات المؤسسية والاجتماعية والثقافية في تحليل الممارسات الصحفية، وبالتالي فإن تطوير برنامج بحث يشمل جميع اللحظات في «حياة» المحتوى أيًا كانت طبيعته، إضافة إلى الصورة الأوسع للخطاب الإعلامي المنتج حول موضوع مثار هو هدف رئيس، ولكنه غير مكتمل حتى الآن في أغلب دراسات الإعلام التقليدي والجديد.
أعتقد أن الفجوة كبيرة بين دراسات المحتوى الإعلامي في الوطن العربي وبين الاتجاهات العالمية الحديثة، وهناك أسباب كثيرة قد تفسر ذلك، ولا يتسع المجال للوقوف عندها، لكن هناك ضرورة لتطوير عملية تحليل المحتوى الإعلامي حتى يشمل جميع اللحظات في «حياة» المحتوى، إضافة إلى الصورة الأوسع للخطاب الإعلامي المنتج حول موضوع مثار، ويهم الجمهور لأن معظم دراسات الخطاب الإعلامي تشبه اللقطات التي تفحص بعض الأخبار بالتفصيل، ولكنها تغطي فترة زمنية قصيرة (غالبًا هي يوم واحد أو بضعة أيام فقط)، في حين أن ذلك قد يكون وثيق الصلة ببعض الأحداث، فمعظم القضايا العامة لها «حياة» طويلة بشكل ملحوظ، لذلك فان دراسة تحليل الخطابات الإعلامية لفترة طويلة نسبيًا مع تتبع المحتوى وتطور معانيه، يعني قدرًا كبيرًا من العمل وساعات عمل طويلة، ولذلك يحتاج الباحثون إلى ابتكار طرق لجعل الدراسة الزمنية الطولية أمرًا ممكنًا. في الوقت نفسه لا بد من تصميم العينات بأساليب جديدة، متعددة المستويات، والوسائط، فمن الممكن مثلاً تحديد العينات سواء عينات زمنية أو عينات مقالات أو أفلام أو صور أو موضوعات، ويمكن تحليل بعض الفترات بشكل شامل ثم التركيز على النقاط المحورية التي تعكس تحولات مهمة، التي تبدو خيارًا مناسبًا أكثر من أخذ العينات العشوائية أو اختيار المحتوى بشكل عشوائي. ويسمح تحليل تلك اللحظات بتحديد المنعطفات الخطابية و - أو خطوط الجدل المستمرة في أوقات مهمة بشكل خاص في البناء الاجتماعي لقضية ما، سواء جرى طرحها وتداولها عبر وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
** **
- عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية في مصر