د. إبراهيم بن محمد الشتوي
(1)
يحتل الطعام منزلة كبيرة في الحياة اليومية، فهو المادة الوحيدة لحياة الإنسان ونموه، يبدأ يومه بوجبة الإفطار، وينهيه بوجبة العشاء. ولذا لا نعجب إذا وجدناه يستغرق حيزاً كبيراً من اهتمام الناس ومن وقتهم؛ في إنتاجه بالزراعة وأحوالها وفنونها، أو تسويقه بالتجارة وأعمالها أو بصناعته بالإنضاج أو التجهيز، والتقديم ثم في طرائق الأكل.
وقد ارتبطت الحضارة الإنسانية بالطعام ارتباطاً جذرياً، فعدت الزراعة أولى مراحل الحضارة، ومثلت طرائق إعداده، وموائده، وتنوعه واحدة من أهم ما يمثل مراحل تطور الإنسان ويبين مقدار اهتمامه بنفسه بوصف هذا الاهتمام هو مادة الحضارة والمدنية.
وفي الأدب القديم كان وصف الموائد وما عليها من أطعمة وفواكه من الموضوعات التي جذبت الشعراء والكتاب على حد سواء، فتفننوا بها وبطرائق الحديث عنها، واتخذوها موضوعاً يتنافسون فيه، ويبينون عن مهاراتهم به.
ولا أقصد الأشعار التي يقصد بها الإضحاك أو الفكاهة كالقصائد التي تروى في معارضة معلقة ابن كلثوم، ويتحدث فيها أصحابها عن أنواع الأطعمة المشتهاة من قبل منشئ القصيدة أو المستمعين إليها مما تعكس نوع الأطعمة السائدة في المجتمع. وإنما أقصد الأدب المنشأ الجاد الذي يعدونه نوعاً من المهارة الأدبية، ويضارعون ما يقولونه فيه ما يقال في وصف الرياض أو البساتين وأنماط الطبيعة.
ويمكن أن نضرب على ذلك مثلاً بشعر ابن الرومي الذي أكثر من وصف الموائد والأطعمة حتى عرف بها، فكان يصف الطعام بأنواعه، والفواكه بأصنافها والحلوى، ومقدمات الطعام وخواتيمه، كقوله:
وتقدمتها قبل ذاك ثرائد
مثل الرياض بمثل ذاك تصدر
ومرققات كلهن مزخرف
بالبيض منها ملبس ومدثر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف
ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر
وهو وصف متجه نحو المائدة نفسها وما عليها من طعام، لا يقصد به التشبيه أو التعبير عن شيء آخر يكنى عنه بالموصوف، ما يعني أنه موضوع قائم بذاته لا يختلف عن أي موضوع طرقه الأدباء.
وقد علل بعض الدارسين شيوع هذا النوع من الشعر عند ابن الرومي بنهمه وحبه للأكل، ولكنه لم يكن وحيداً في هذا الفن، وإنما قد شاركه سواه فيه من الكتاب والشعراء، ما يعني أنه كان شائعاً في ذلك الزمن بالرغم من تقدمه نسبياً بالنسبة لأزمنة الشعر، فهو في أول العصر العباسي الثاني.
وقد اختلفت الآليات (Mechanisms) التي يستعملها الأدباء في وصفهم الطعام، فقد يستعملون أحياناً آليات تعود في خلفياتها إلى فن المديح، فتضارع تلك الصفات التي يمدح بها الشعراء عادة ممدوحيهم، من مثل قول ابن الرومي:
طفقت تجود بذوبها جوذابة
فأتى لباب اللوز فيها السكر
فالوصف بأنها «تجود»، يذكرنا بالجود الذي هو نوع من «الكرم» ويوصف به كرام الناس:
يجود بالنفس إن ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وهذا يجعلها في محل الممدحين، وهو ما يكسبها قيمة ومنزلة في النفس عالية.
وقد تعود خلفية هذه الآلية إلى السياسة والوفادة، فتكون بمنزلة الوافد على ذي جاه لا يستطيع أحد أن يمنعها الحجاب لقربها من قلب الوجيه كقول ابن الرومي أيضاً:
لم تغلق الشهوة أبوابها
إلا أبت زلفاه أن يحجباً
فالأبواب والحجاب إنما يكونون عند أبواب السلاطين يمنعون الناس من دخول الوافدين بيد أن هذه الحلوى بمنزلتها العالية لا يمكن للحجاب أن يمنعوها.
وفي هذه القصيدة يستدعي بعض آليات الغزل والحب:
لو أنه صور من خبزه
ثغراً لكان الواضح الأشنبا
من كل بيضاء يود الفتى
أن يجعل الكف لها مركبا
فالواضح الأشنب صفة تمدح بثغر الفتيات الحسان التي تكون أسنانها واضحة مع رقة وعذوبة، وفي البيت الثاني يستعمل كلمة «بيضاء» وهي تطلق أيضاً على الفتاة الحسناء، وجاورها بالفتى ليعزز الإيحاء بالتماثل بين هذه الحلوى والفتيات الحسان دون أن يستعمل التشبيه التقليدي أو الاستعارة التي قد يستعملها أحياناً في الوصف كقوله:
وسميطة صفراء دينارية
ثمناً ولوناً زفها لك حزور
فقوله: «زفها» بمعنى قدمها وهي تشبه استعارة شبه فيها الدجاجة بالعروس على طريقة الاستعارة التخييلية، ولكنها ليست كذلك.
وقد تكون الآلية مستدعاة من الفلسفة والجدال وعلم الأفكار التي يكثر فيه النقد والحوار والمناقشة كقوله:
وانتقد السكر نقاده
وشاوروا في نقده المذهبا
فالنقاد، والمذاهب إنما تكون في الأفكار والعقائد التي يحتاج فيها إلى المشاورة والمحاورة وإعادة النظر حتى يستقيم الرأي، وتبين طريق الصواب، وليس في سكر يصنع منه الحلوى.
وهذه الطريقة في الوصف التي لا تستعمل الأساليب التقليدية القائمة على التشبيه والاستعارة بمقدار ما تسلك طريقة مختلفة تستل بها مكونات نصية عادة ما تستعمل في الحديث عن أمر آخر جاد، وحقل نصي معروف ثم تدرجها في هذا البناء النصي الجديد ما يوحي بأهمية الموضوع المتحدث عنه، وقيمته العالية التي تجعله يضارع الموضوع الذي استلت منه تلك المكونات النصية أو الآليات النصية كما سميناها من قبل.
وهي تختلف عن الاستعارة بأن الاستعارة جزئية أي تتصل بالمفردة المستعملة في حين تذهب هذه الطريقة إلى توظيف التركيب المتكامل أو المفهوم المنتسب إلى حقل نصي آخر.
كما أن هذا التوظيف -إن صح التعبير- لهذه الآليات النصية لا يتسع في القصيدة حتى تبني تماثلاً بين الموصوف (الطعام) والأصل المستمد منه الآلية فتحول أحدهما معادلاً موضوعياً للآخر، على طريقة الرومانسيين، أو تسبغ صفات أحدهما على الآخر، فيتسع القول مثلاُ في الحديث عن القطائف لأن تصبح فتاة حسناء في كل مقاطع القصيدة وفي كل أجزاء نعت القطيفة، وإنما يقوم على إدماج عدد كبير من الآليات المختلفة ذات المرجعيات النصية المختلفة ما يحصر التماثل في حدود معينة ويجعل هذا الاستدعاء آلية محددة للوصف ضمن عدد آخر من الآليات المختلفة ذات المرجعيات النصية المتنوعة.
هذا الوصف لا يرغب بالأكل بقدر ما يمنح انطباعاً عن قيمة هذا الطعام في النفس، وعن البراعة الأدبية التي تميز بها قائل هذا الوصف سواء أكان شعراً أم نثراً. إنه يرفع قيمة الطعام من أنه طعام يشترك به الخاصة والعامة والإنسان والحيوان لأن يكون حقلاً خاصاً يشبه الفعل الذي يختص به فئة من الناس دون أخرى.