سهام القحطاني
«كلما اقتربت المعرفة من عيوننا فقدنا بصيرة الفلسفة»
هل انتهى زمن الفلسفة؟
إن فكرة انتهاء الصلاحية الفكرية لأي محتوى معرفي، هي فكرة غير صحيحة في مجملها؛ لأن المعرفة ليست كينونة في ذاتها وإن كانت قابلة للتطور والإضافة والارتقاء لكن خاصية التلاشي والاندثار أو «توقف الوظائف الحيوية» لا يمكن تطبيقها على المحتوى المعرفي، فلا شك أن بعض المحتويات المعرفية تتراجع أهميتها وقيمتها لظهور محتويات معرفية جديدة تتناسب مع التصاعد الفكري للناس ومستجدات وسائل وأدوات وطرق البحث، لكن هذا التراجع للأهمية والقيمة ليس معادلا للموت الفكري لأي محتوى.
إضافة إلى ذلك أننا عندما نتحدث عن «موت محتوى معرفي ما» فنحن نقصد «القالب المعرفي» لذلك المحتوى، فالارتقاء الفكري «يحرر المحتويات الفكرية» من قوالبها التوصيفية أو «حدودها التوصيفية» وهذا التحرر من القالبية يقوم بعملية دمج فكري بين المحتويات المعرفية.
وبذلك تُصبح الإجابة على سؤال هل انتهى زمن الفلسفة؟ بأن هذا السؤال غالبا يقصد «قالب المحتوى المعرفي» وليس «المحتوى المعرفي ذاته» أو المسألة الفلسفية كمكون لمحتوى معرفي.
وعندما نبحث اليوم عن المسألة الثقافية سنجدها أن «عمود تكوين» لكثير من النظريات المعرفية والاجتماعية والعلمية، وهو ما يعني أن المحتوى المعرفي للمسألة الثقافية ما زال حاضرا في ثنايا النظرية الفكرية والعلمية متحررا من قالبيته التقليدية، وهذا المسار للتحول الفلسفي أقصد مسار القالب من التحرر التوصيفي إلى الاندماج مع قوالب توصفية جديدة هو الذي جعلنا نتوهم بموت الفلسفة أو انتهاء صلاحيتها الفكرية.
إذن اختلف أو قل تجدد الوسيط الحامل للمسألة الفلسفية ولم تنته الفلسفة.
ولعل أبرز وسيط حامل المسألة الثقافية اليوم هي «السينما» التي استطاعت أن تكون وسيطا للمسألة الثقافية بل وتقربها إلى الذهن الاجتماعي، وهو ما حوّل بدوره المسألة الفلسفية من صياغتها اللغوية إلى صياغة مرئية تربط تلك المسألة بالصورة وتٌخرجها من «فضاء الخيال» إلى «عالم التخيّل»، وجعل المسألة الثقافية تشعّ بالجاذبية وتستقطب الجمهور الذي مهما تطورت مدركاته المعرفية يظل مشدودا بدهشة نحو الأسئلة الوجودية الأولى؛ الموت والحياة والزمن والخير والشر.
يتناول كتاب «السينما والفلسفة» تأليف «داميان كوكس ومايكل ليفين» ترجمة «نيفين عبد الرؤوف» عام 2017، الأسئلة الفلسفية سواء تلك المتعلقة بنظرية المعرفة أو ما وراء الطبيعة أو علم الوجود والذكاء الاصطناعي، والموت والحياة والسفر عبر الزمن، وغيرها من المسائل الفلسفية التي طرحتها الأفلام، التي تناقش «هل السينما وسيط فلسفي جدير بالثقة؟ هل الأفلام مجال للتأملات الفلسفية؟ ما الذي ينبغي لنا أن نتوقعه من الأفلام من زاوية فلسفية؟ هل في وسع الأفلام التفلسف فعليا لا مجرد الاكتفاء بإبراز أفكار فلسفية؟ هل في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي؟» -كتاب السينما والفلسفة-
هل الأنا في اللا وعيها هي آخر؟ هل نحن حقيقة كما نبدو في المرآة أم داخلنا يقبع آخر نقيض لنا مثلما نظهر في المرآة؟ هذه الإشكالية الفلسفية للآخر داخلنا تناولته الكثير من الأفلام من أهمها فيلم دكتور جيكل ومستر هايد المقتبس من رواية الأديب الإنجليزي «روبرت لويس ستيفنسون» فالدكتور هنري جيكل بطل الرواية يؤمن بأن كل إنسان يملك النقيضين في كل شيء ومنها الخير والشر، ولكي يثبت نظريته توصل إلى دواء يُحرض النقيض الذي داخله إلى الظهور والتجسد من خلال شخصية «مستر هايد» الشخصية الشريرة.
ليظل السؤال الذي يُثيره الفيلم قائما أيهما الطبع في الإنسان ما هو ظاهر من ذاتنا في المرآة أو ما هو خفي عنها، هل ما هو خفي «الشر» هو الطبع كما يرى كانط «لأنه ينبع من حرية الإنسان بوصفها ماهيته الميتافيزيقية المحضة.»-كانط راهنا، د أم الزين بنشيخة المسكيني-.
انبثقت من ثنائية الخير والشر كمسألة فلسفية «فكرة النفعية» وتطورت كمسألة فلسفية من خلال الفيلسوف «جيرمي بنثام» والذي يقصد بها كل سلوك يحقق السعادة للذات أو للآخرين أو تمنع وقوع الألم للذات أو للآخرين.
في فيلم «الإشراقة الأبدية للعقل النظيف» إخراج «الفرنسي ميتشل غوندري» وكتابة «تشارلي كوفمان وبيير بيزمت «الذي انتج عام 2004 والذي حصل على جائزة الأوسكار 2005 لأفضل سيناريو، ويقدم الفيلم «نقدا دامغا للنفعية،وفي حالة هذا الفيلم تمارس الفلسفة عبر طرح مثال مناقض قوي يستخدم تجربة افتراضية، وقصد صناع هذا الفيلم هو محاولة تفنيد الرؤية النفعية كرؤية أخلاقية معيارية.»-كتاب السينما والفلسفة-
ابتكر ديكارت «نظرية الشيطان الشرير» الذي يسعى إلى خداعنا من خلال خلق عالم وهمي يحيط بنا، ولذا دعا ديكا رت إلى التخلي عن أجسادنا لنتحرر من هذا الوهم، وهذه الفكرة الفلسفية نجدها في فيلم «المصفوفة أو ذا ماتريكس» والذي يتناول استعمار الذات الإنسانية من قبل آلات حاسوبية تحبس الإنسان داخل مصفوفة وتختلق له عالماً وهمياً، ومن ثم يبدأ صراع الإنسان مع آلات ليتحرر من استغلاله كبطاريات مولدة للطاقة أو وفق نظرية ديكارت التحرر من الوهم الشيطاني، فهذا الفيلم «نسخة محدثة من فرضية الشيطان الشرير التي اقترحها ديكارت؛ كما جاءت على لسان مورفيس أحد شخصيات الفيلم «هي عالم أسدل أمام عينيك ليعميك عن الحقيقة» لكن بدلا من الشيطان الشرير يقدم الفيلم ذاتا شريرة وهي شخصية المعماري المبهمة في دور صنّاع المصفوفة وفي حين لا يقدم ديكارت تفسيرا لكيفية تمكن الشيطان الشرير من غرس الأفكار الخاطئة داخلنا، يجسد لنا الفيلم طريقة عمل المعماري ألا وهي البرمجة الحاسوبية.»-كتاب السينما والفلسفة-
وغيرها من الأفلام السينمائية التي قدمت لنا المسائل الفلسفية ولكن بلغة الفن السابع نتابعها في المقال القادم إن شاء الله.