محسن علي السهيمي
للدكتور عبدالرحمن بن حسن المحسني -أستاذ النقد والأدب المشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك خالد- منهجه الذي عُرف به ولم يتحول عنه، ويقوم على الموضوعية والإنصاف سواء في دراساته وأطروحاته النقدية أو في تعامله مع مستحدثات العصر وتقنياته. لست هنا في مقام الحفر في سيرة المحسني العلمية والعملية والثقافية والإبداعية والغوص فيها، وهي التي تحفل بالجدية والطموح والتطوير الدائب ويرتفع فيها شعار الإيمان بـ(الأمام) الذي نحته فتمثله، فلعل لها مقالاً يأتي في حينه وفي مناسبته؛ إنما أردت بهذا النثار أن أقف على ملمحَين بارزَين جليَّيْن يطرزان مسيرته الفكرية والنقدية، ويلاحظهما المتتبع لدراساته وأطروحاته. المحسني شاعر ذو شاعرية متدفقة تتعامل مع الكلمة بكل إحساس مرهف وذائقة جمالية، لذلك كانت ثمرة هذه الشاعرية ديوانَين طرز بهما جيد الشعر العربي، أما عن شاعريته فإننا نجده يكتب القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، لكنه يجد نفسه أكثر في قصيدة النثر، ولذا نراه يؤكد على رسوخها وحضورها في المشهد الشعري؛ عطفًا على عمرها الزمني -عربيًّا- الذي جاوز ثُلثي قرن تقريبًا. المحسني كما هو شاعر فهو كذلك ناقد حاذق له أسلوبه المتفرد وله بصمته النقدية المميزة التي تظهر على النص المنقود فتفتح فيه آفاقًا جديدة يلمسها المتلقي. المفارقة هنا (الشاهد) هي أنه بالنظر للمحسني (الناقد) فإننا نجد الكثير من دراساته وقراءاته النقدية تتركز على القصيدة الخليلية سواء من خلال النصوص المفردة أو من خلال الدواوين الشعرية لشعراء خليليين؛ حيث يُعمل فيها أدواته النقدية وفق المنهج الفني الذي هو -كما يقال- أقرب لنقد الشعر، فيستخرج من تلك النصوص دررها ومضامينها الخفية ويفك شفراتها ويكشف عن مفاتنها ومواطن الجَمال فيها مستحضرًا في ذلك المنهج السيميائي -الذي أراه يستهويه- لبيان دلالات النص وعلاقاته الداخلية فيخرج لنا بما يصادر آفاق التوقع لدى القارئ، مع أن بإمكانه حصر أدواته النقدية على نصوص ودواوين (قصيدة النثر) التي يميل إليها ويكتبها ويؤكد رسوخها. موقفُ المحسنيِّ الإيجابيُّ من القصيدة الخليلية -عندما لم يتجاهلها بل اعتنى بها في دراساته وقراءاته النقدية بشكل ربما شكَّل ظاهرة في دراساته وقراءته النقدية- يدل دلالة ناصعة على أن نزعته لقصيدة النثر لم تجعله متحيزًا لها مُصادرًا للقصيدة الخليلية، ولم تجعله يوظف دراسته وقراءته النقدية لحساب قصيدة النثر وحدها؛ بقصد تغييب القصيدة الخليلية وحفز قصيدة النثر، ولم يُعلن -فيما أعلم- عن (موت القصيدة الخليلية)، وهذا منهج غاية في الموضوعية والإنصاف، وهو ما يفتقر إليه بعض النقاد الذين ينحازون للونٍ شعريٍّ فلا يمررون أدواتهم النقدية على سواه. هذا ملمح أول نجده عند المحسني، وهناك ملمح (شاهد) أخير، وهو أنه يمكن اعتبار المحسني من أبرز -بل أوائل- من اعتنى بالتقنية وفيوضاتها من جهة، وتعالقها مع الأدب بكل فنونه من جهة أخرى، ولذا رأينا كيف أن اهتمامه بالتقنية انعكس بجلاء على أطروحاته ومؤلفاته، فكان -ولا يزال- نصيرًا للتقنية مؤمنًا بدورها الريادي في العصر الحديث داعيًا للتعامل معها والإفادة من معطياتها، وهذا قد يُفهم منه انصرافه التام للتقنية على حساب المطبوعات الورقية كالصحف والمجلات والكتب وغيرها ولكن هذا لم يحدث؛ فمرةً أخرى نجد المحسني لا يندفع فيعلن (موت الورق) والأوعية الثقافية التي تعتمد عليه، بل نراه يؤمن ببقاء الحاجة للورق مهما كانت فاعلية التقنية، فهو لا يهتم للأداة الثقافية الحاملة للعلم والمعرفة قدر اهتمامه باشتغال القارئ بالقراءة والاطلاع، فيقول: «أمرَ اللهُ تعالى بفعل القراءة.. (اقرأ)، ولم يحدد أداة القراءة؛ ليجعلها مفتوحة على كل التقنيات المحتملة لكل عصر (كتابًا ورقيًّا، سمعيًّا، تقنيًّا.. إلخ)؛ ليس المهم في أداة العلم، بل المهم أن نقرأ، وأن نفقه ماذا نقرأ؟ وأن نحفظ وقتنا من سرقات التقنية». ميل المحسني للتقنية واشتغاله عليها وإفادته منها لم يحمله على مصادرة التعامل مع الورق والإفادة منه، لكن حينما تقوم التقنية مقام الورق وتؤدي دوره بشكل أمثل وأكمل وأسهل فهو لن يتأخر عن الإفادة منها، والعكس صحيح كذلك. موضوعية المحسني وإنصافه في التعاطي مع ما لا يتقاطع مع نزعته الجامحة الظاهرة نحو (قصيدة النثر والتقنية) تُعد حالة لافتة للنظر وجديرة بالوقوف عندها والاحتفاء بها، والذي يظهر لي أنها ثقافة نشأ عليها وتأصلت في وعيه فشكلت منهجه الذي عُرف عنه وتميز به.