ترجع فكرة هذه المقالة إلى تغريدةٍ لأستاذنا الفاضل، الأديب الألمعيِّ الدُّكتور عبد الله سُليم الرُّشيد -حفظه الله- أثار فيها هذه الظَّاهرة، مبيِّنًا المؤاخذات عليها، فقال: «وجهة نظرٍ لعلَّها تفيد الباحثين: كثرت في عنونة البحوث العلميَّة جملة (كذا وكذا أُنموذجًا)، كأن يكون: (هجاء النَّفس في الشِّعر العربيّ، شعر أبي دلامة أُنموذجًا). فهذا العنوان يعني أنَّ الباحث سوف يستعرض ما قبل النَّموذج، ويُمهِّد بعرض هذه الظَّاهرة قبل أبي دلامة، ثُمَّ يُخصِّص شِعرَه بالتَّحليل المعمَّق، ولكنَّ الذي يقع غالبًا أن يشرع الباحث في النَّموذج، ولا يعرض لما سبقه أو ما يشترك معه، فيُخلُّ بمقتضى العنوان، ولو شاء ألَّا يدرس سوى شِعر أبي دلامة، فعليه أن يجعل العنوان: (هجاء النَّفس في شعر أبي دلامة)، وهذا لا يُعارض جعل بعض التَّمهيد عرضًا موجزًا للظَّاهرة وتاريخها. ومن الاضطراب أيضًا اتِّخاذ جماعةٍ أو مذهبٍ أو تيَّارٍ (أُنموذجًا) كأن يكون: (شعر النَّقائض أُنموذجًا)، أو: (شعراء الحجاز أُنموذجًا) فهذا فضلًا عن خلَله اللُّغويّ في جعله النَّموذج جماعةً، يُخلُّ بالمفهوم؛ لأنَّ (النَّموذج) يعني الحصر. ويمكن كشف الخلَل باستعراض عناوين لبعض البحوث التي سلكت ذلك المسلك»(1).
فارتأينا أن نُعرِّج على هذه الظَّاهرة عرضًا وكشفًا وتحليًلا ومناقشةً، موافقين أستاذنا الدُّكتور الرُّشيد في بعض هذه الاعتراضات، ومُوجِّهين لأُخرَ توجيهًا يجمع فيه الموضوعُ حُسنَيَي طَرَفَي الحكم فيه، فنُبقي فيه على الظَّاهرة من جهةٍ، ونُجنِّبها تلكم الاعتراضات من جهة أخرى، على أن يلتزم المعنوِن بالتَّمهيد العام للموضوع، ويجعل دائرة مثاله أو نموذجه في جزئيَّة خاصةٍ ضيِّقة.
أولًا: تعريف وبيان
يُقصد بهذه الظَّاهرة: إرداف العنوان الرَّئيس العامّ بعنوانٍ فرعيٍّ خاصٍّ مختوم بكلمة «نموذجًا»، أو بإحدى أخواتها ممَّا يتداوله الباحثون ويستعملونه في بابتها، نحو: مثالًا، أو أُنموذجًا، أو عَيِّنةً. أو ممَّا يمكن استعماله فيها؛ لاشتراكه معها في المفهوم نفسه، نحو: إطارًا، أو نِطاقًا، أو حدودًا، أو مجالًا، أو ميدانًا، أو ما شابه ذلك من الألفاظ التي تنضوي تحت الحقل الدَّلالي الذي تنتمي إليه كلمة «النَّموذج».
ولعلَّ الأَولى والأفضل هو الاكتفاء بإحدى المفردتين: «مثالًا»، أو «نموذجًا»، والأُولى أفصح وآصَل، والثَّانية أشهر وأعرف؛ لسلامتهما من الاعتراضات التي وجِّهت لأخواتهما، كالتَّلحين في «أُنموذجًا»(2)، وعدم الشُّيوع في «عَيِّنةً»، وعدم الاستعمال في الأُخَر.
أمَّا تقديم «مثالًا» عليها فهو تقديم للَّفظ العربيِّ الفصيح على اللَّفظ المعرَّب؛ لأنَّ «الْأُنْمُوذَج بضمّ الهمزة ما يدلُّ على صفة الشَّيءِ وهو معرَّبٌ وفِي لُغَةٍ نَمُوذَجٌ بفتح النُّون والذَّال مُعجمةً مفتوحةً مُطلقًا. قال الصَّغَانِيّ: النَّمُوذَجُ مثالُ الشَّيْءِ الَّذي يُعمل عليه وهو تعريب نَمُوذَهْ، وقال: الصَّواب النَّمُوذَجُ؛ لأنَّه لا تغيير فيه بزيادةٍ»(3).
ثانيًا: أسباب ودوافع
عنَّ لنا من تقليب النَّظر في هذه الظَّاهرة والتَّأمُّل فيها أنَّ ثَمَّ جملةً من الأسباب، لعلها تشترك معًا في شيوع هذه الظَّاهرة وذيوعها، منها:
1. الإبانة عن عُموميَّة الموضوع، وتخطِّيه حدودَ الجزئيَّة المدروسة.
2. التَّعبير عن سعة الموضوع، والاقتصار على جزءٍ منه؛ لتحدُّد الظُّروف المسموح بها للبحث أو الدِّراسة.
3. الإفصاح عن تعذُّرِ الإحاطة بالموضوع أو تعسُّرها في ضوء الوُسع المتاح.
4. الإشارة إلى ظهور الموضوع المدروس وبروزه في النَّموذج المحدَّد، على الرَّغم من اشتراك عدَّة أطراف فيه.
5. التَّقليد المطلق، ومحاكاة اللَّاحق للسَّابق.
ثالثا: إشكال وموانع
إذا أمعنا النَّظر في اعتراضات الدُّكتور الرُّشيد أمكننا أن نصنِّفها إلى ما يأتي:
1. الإشكال المنهجيّ المتمثِّل بمخالفة المحتوى والمضمون ما دُوِّن على طُرَّة غلاف الدِّراسة، والاختلال بمقتضى العنوان الذي ارتُضيَ لها، وانطُلِق منه إلى المبتغى أو الهدف المراد تحقيقه. وذلك بالإغفال عن التَّعرُّض للعنوان الرَّئيس العامّ الذي جُعِل تمهيدًا للموضوع وتوطئةً للدِّراسة، والعدول عنه إلى الفرعيِّ الممهَّد له. قال الدُّكتور الرُّشيد: «إذا جُعِلَ العنوان مُطوَّلًا على ما ذُكِرَ في التَّغريدة، فيلزم الباحثَ أن يدرس الظَّاهرة كلَّها قبل النَّموذج، والأصل أن يدرسها؛ لأنَّه جعل النَّموذج فرعًا تطبيقيًّا فحسب»(4).
2. الإشكال الفنِّيّ النَّاتج عن طول العنوان والإسهاب فيه إلى الحدِّ الذي يُخرجه عن سمة الإيجاز والاختصار التي ينادي بها منهجُ البحث العلميّ في صناعة العنوانات وبنائها.
3. الإشكال العلميّ المتمثِّل بانتحاء ما يُناقض مفهوم المثال أو النَّموذج الدَّال على الحصر والتَّخصيص، فتُلفي بعض هذه الدِّراسات يتَّخذ من مجموعةٍ أو مجموعات أو ما يَخرج به الموضوعُ عن دائرته الضَّيِّقة التي ينبغي أن يكون عليها، والجزئيَّةِ التي حصره العنوان بها؛ يتَّخذُ منها نماذجَ لها، مناقضًا بذلك ما يُلزِمه به مفهومُ النَّموذج الذي بنى عليه تطبيقه الجزئيّ.
رابعًا: توفيق وتوجيه
لعلَّ التَّوفيق بين الظَّاهرة وهذه الاعتراضات، بتوجيه الأخيرة بما تَسَعُ له الثَّوابت المنهجيَّة والعلميَّة في التُّراث التَّأليفيّ قديمًا وحديثًا، أنجعُ من الدَّعوة إلى رفضها واجتناب استعمالها، على أن تُطوَّع هذه الاعتراضات وتُوجَّه توجيهًا يجمع حُسنَيَي الطَّرفَين، وينأى بالعنوان عن تلك المؤاخذات، وكما يأتي:
أمَّا الإشكال المنهجيّ فيمكن معالجته بإلزام الباحث الذي ارتضى هذا النَّوع من العنوانات أحدَ الأمرين:
1. التَّمهيد للدِّراسة والتَّوطئة لها بما يُنطَلَق منه إلى النَّموذج التَّطبيقيّ الفرعيّ المردَف به؛ تحقيقًا للتَّطابق بين العنوان والمحتوى أو المضمون. وهو الأفضل.
2. المزاوجة بين شطرَي العنوان، مُدمِجًا بينهما؛ اختصارًا فيهما واكتفاءً بما يسلَم فيه العنوان من المؤاخذة، فبدلًا من أن يقال مثلًا: (التَّوابع في المعلَّقات -مُعلَّقة زُهير نموذجًا)، يُكتفَى فيه بالقول: (التَّوابع في مُعلَّقة زُهير)، وهلمَّ جرًّا. هذا إن تعذَّر أو تعسَّر الأخذ بالأول، وبهذا يخرج الموضوع عمَّا نحن بصدده.
أمَّا الإشكال الفنِّيّ فيمكن الجواب عنه بما يأتي:
1. طول العنوان ليس بلازم ولا مطَّردٍ في جميع عنوانات هذه الظَّاهرة، لاعتماده على طبيعة الظَّاهرة المدروسة، ونوع الموضوع فيها، فشأنه في ذلك شأن العنوانات الأخرى، تطول أو تقصر تبَعًا لذلك، وليس للتَّشطير الى الرئيسيَّة والفرعيَّة فيه أثرٌ كبيرٌ.
2. الاستئناس في تسويغ ذلك الطُّول النِّسبيّ في بعض العنوانات التي تُورثها هذه الظَّاهرة -وإن كان الجنوح إلى الإيجاز والاختصار دون إطالة أو إطنابٍ هو السِّمة البارزة في المؤلَّفات الأُوَل- بورود ما اتَّسع مداه، وخرج به مؤلِّفوه عن الطُّول المألوف في التُّراث العربيّ، ومن ذلك على سبيل المثال، كتاب: الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس: لابن أبي زرع الفاسيّ (ت في حدود سنة 726هـ)(5) ، وكتاب: رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الإيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض: لابن عابدين (ت1252)(6) ، وكتاب: رفع الالتباس والإشكال في الجواب عن معنى الوصل والوصول والوصال والاتصال: لمحمد العمري سبط المرصفيّ (ت966هـ)(7) ، وكتاب: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن والاهم من ذوي السلطان الأكبر: لابن خلدون (ت808هـ)(8). وغير ذلك من العنوانات التي تجعل من العنوان ههنا في هذه الظَّاهرة عنوانًا متوسِّطا لا طويلًا، إن لم يكن قصيرًا؛ قياسًا عليها!
3. البعد الدَّلاليّ لتلك الطِّوال، والتَّعبير عن مضامينَ في التَّأليف، وأهدافٍ وغاياتٍ تختلج نفسَ المؤلِّف؛ إذ «يرى بعض المحقِّقين أنَّ كثيرًا من المؤلِّفينَ كانوا يضعون لكتُبهم العناوين الطَّويلة لتوضيح حالها وموضوعها والهدف من تأليفها، وذلك بدقَّة متناهيةٍ في اختيار المفردات»(9). فلم يكن الطُّول فيها عبثًا كيفما جاء واتَّفق!
أمَّا الإشكال العلميُّ فهو اعتراضٌ في محلِّه، إذ لا وجه للمناص منه؛ فينبغي الإعراض عن اتِّخاذ المجاميع أمثلةً للدِّراسة ونماذجَ لها؛ لأنَّه «فضلًا عن خلَله اللُّغويّ في جعله النَّموذج جماعةً، يُخلُّ بالمفهوم؛ لأنَّ (النَّموذج) يعني الحصر»(10).
خامسا: تسويغ وتعليل
إخالُ أنَّ ثمَّ ما يُسوِّغ للإبقاء على هذه الظَّاهرة، ويُعلَّل به لاستعمالها، دون الدَّعوة إلى اجتنابها والابتعاد عنها، ومن هذه المسوِّغات:
1. تعسُّر الاستغناء عنها؛ لأنَّها من الظَّواهر التي لاقت ذيوعًا وشُهرةً، فلا يكاد مجالُ التَّأليف الحديث يخلو من تداولها، سواءٌ أكان ذلك مستوى الجامعات والمؤسَّسات العلميَّة والمراكز البحثيَّة أم على مستوى الأفراد.
2. إيحائها بالاقتراح البحثيّ على الآخرين بدراسة التَّطبيقات المناظرة للنَّموذج المدروس، ممَّا ينضوي تحت العنوان العامّ من خلال لفت أنظار الباحثين إليه، وتوجيه الدِّراسات نحوَه في مدوَّنات أُخرى، وتكثيف البحوث فيه.
3. إفادتها المعرفيَّة المستقاة من ذلك العموم؛ تمهيدًا للموضوع وتوطئةً له؛ إشارةً إلى حاجة الموضوع إلى المزيد؛ توسيعًا لدائرة البحث حتى تكتمل الصُّورة الكاملة للظَّاهرة، وترتسم معالمها وحدودها. وتوصيةً بالعناية بالموضوع والاهتمام به حتى يُؤتيَ أُكلَها.
4. الإشارة إلى أنَّها ظاهرةٌ عامَّةٌ لا خاصَّةٌ مقتصرةٌ على المدروس فحسب.
5. الحملُ على ما يُناظرها في النَّحو العربيّ في باب البدل، أعني: (بدل بعضٍ من كلٍّ)، الذي لا يسري فيه الحكمُ إلَّا على التَّابع دون المتبوع الممهِّد والموطِّئ، الذي يُوتَى به على سبيل التّبيان والإيضاح للتَّابع لا غير. فلِمَ لا يكون العنوان الرَّئيس تمهيدًا بيانيًا، وتوطئةً مُوضِحةً للعنوان الفرعيِّ المنتقَى نموذجًا؟! والله أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــ
الهوامش:
(1) عبد الله بن سليم الرشيد @1401shfa، تغريدة بتاريخ: (9/ 9/ 2021م)، عُوينَت في: 9/ 9/ 2021.
(2) انظر: القاموس المحيط: 208 (نموذج)، وتاج العروس: 6/ 250 (نمذج).
(3) المصباح المنير: 2/ 625 (نمذج).
(4) عبد الله بن سليم الرشيد @1401shfa، تغريدة بتاريخ: (9/ 9/ 2021م)، عُوينَت في: 9/ 9/ 2021.
(5) (6) انظر: معجم المطبوعات العربيَّة والمعرَّبة: 1/32، 153.
(7) انظر: إيضاح المكنون: 3/577.
(8) انظر: معجم المطبوعات العربيَّة والمعرَّبة: 1/96.
(9) عناوين الكتب.. الطَّرافة والسَّجع على مرّ العصور: منصور العسَّاف، جريدة الرِّياض، العدد (16411)، 20 رجب 1434هـ/ 30 مايو 2013م.
(10) عبد الله بن سليم الرشيد @1401shfa، تغريدة بتاريخ: (9/ 9/ 2021م)، عُوينَت في: 9/ 9/ 2021.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك