وصف الأستاذ محمد العلي الثقافة العربيّة في غير موضع بأنها ثقافة «متناقضة» و«مضطربة» و«متضاربة»، ويمكننا اقتباس بعض عباراته القاطعة التي لا تخلو من تعميم، ومنها: «هناك مقولة يونانية تقول: الفعل هو معرفة الأسباب، وحين ندرسُ الثقافة العربية مثلا في ضوء هذه المقولة نرى أنها ثقافة تقوم على الأساطير وعلى التّناقض معا». وقوله: «إنّ ثقافتنا كلَّها يلفُّها هذا النوع من التّناقض من رأسها إلى القدم، أو هي محجبة به».
وقد عرّف العلي مبدأ عدم التناقض بأنّ الشيء نفسه لا يمكنُ أنْ يكونَ حقًّا وباطلا معًا، أو حسنًا وقبيحًا معًا. والكلام المتناقض حسب العلي هو «الكلام الذي يكون بعضه مقتضيا إبطال بعض». وفي مقال ثالث نقل تعريفًا لما أسماه بالتّناقض الوجدانيّ، فهو «تعايش متعارضين في حالة صراعٍ داخلَ النَّفس، وهذا ما يؤدي إلى شلل الإرادة. أما الفلسفة فتسمي هذا بالثُّنائيّة، وهو يؤدّي في الحياة الاجتماعيّة إلى النّفاق». وقد أولى العلي هذا المبدأ الفلسفيّ عنايته، لأهمية عدم التناقض في إنتاج المعرفة، والنأي بها عن التشظي والاضطراب. كما رصد ظواهر التناقض في السلوك الفكريّ واللغويّ واليوميّ، من شعراء وعلماء وفقهاء ومفكرين قديما وحديثا.
ويستشهد العلي بالشعر في كثير من أوراقه النقديّة، ربما «انطلاقًا من أنّ الطبيعة الشعريّة طبيعة مشربة بالحلم والتّوق، وتتصادى مع أكبر ما في المجتمع من المضامين النفسيّة» على حدِّ قوله. فالشعر ليس مجرد نبع للقيم الجماليّة، بل شاهد على القيم العربيّة بكل حمولاتها الثقافيّة. وسنقف في هذا المقال على بعض الشواهد الشعريّة التي أوردها العلي، بدءا من معلقة زهير بن أبي سلمى، ونرى ما إذا كانت بالفعل تشير إلى تناقض ثقافي عربي أم لا.
يقول العلي: «لا حاجة للوقوف طويلا على العصر الجاهليّ، يكفي أن نقفَ وقفةً قصيرة على أهمِّ شيءٍ فيه، وهو الشّعر، وعلى قصيدةٍ من أهمِّ ما ترك لنا هذا العهد، وهي معلقة زهير، فنرى أنّ كلَّ بيتٍ يسيرُ في وادٍ. فمثلا هو يقول:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يُهدّم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويقول في البيت الذي بَعْده مباشرة:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب، ويوطأ بمنسم».
البيتان الواردان أعلاه بيتا حكمة، يتحدث أحدهما عن أهمية المصانعة والمجاملة والترفُّق في شؤون الحياة الكثيرة، بينما يدور البيت الآخر حول الذّود والمدافعة عن الحمى والعِرض ساعة الحرب والشدة، وهذا موضوع آخر. فأين هو التّناقض؟ ينعدم التناقض عندَ انعدام أحد شروطه، ومن أهمِّ شروطه اتحاد الموضوع، فلا تناقض بين البيتين، لاختلاف الموضوع في القضيتين.
يقول العلي: «إنّ الشّاعر القديم بدءًا من العصر الجاهليّ لم يكن يحسّ بالتّناقض إلا عبر خطوط كبرى كالحياة والموت، والفقر والغنى، والحرب والسّلم؛ ولذلك كان يقاومها بالاستسلام تارة، وبالأماني تارة أخرى، وكان نموذجه هو الإنسان المنتصر». إذن فليس بيتا زهير سالفا الذكر متناقضين بقدر ما هما نوع من التّعايش والتّأقلم تارة، والغضب والتأزّم تارة أخرى، ويمثل الشعر ذروة هذا الصراع بين الإنسان والطبيعة. فالبيتان من تجليات هذا التأقلم والتأزم معًا، ومظهرٌ من مظاهر الحياة والموت، والسّلم والحرب. أليس هذا من الخطوط الكبرى التي يُحسُّ بالتّناقض حيالها إحساسًا فطريًّا؟
ظلّت تُشجّعني هندٌ بتضليل
وللشّجاعة خطبٌ غيرُ مجهول
هاتي شجاعًا بغير القتل مصرعه
أوجدك ألفَ جبانٍ غير مقتول
الحربُ تُوسع مَنْ يَصلَى بها حَرَبًا
يتمَ البنين، وإثكالَ المثاكيل
أورد العلي هذه الأبيات الأربعة مثالاً آخر لتناقض منظومة الشمائل العربية، دون أن يشير إلى حيثياتها الدقيقة. فهي أبيات يهجو بها الشاعر أبو الغمر المدنيّ قيمة الشجاعة، ويمدح صفة الجبن، وذلك كما يبدو من قبيل التندر والاستضحاك؛ لخلاصه من لصوصه تعرضوا له لا أكثر. والجبن فوق ذلك صفةٌ فرديّة، مثلما هي الشّجاعة، ومن الطبيعيّ أن تختلف آراء الناس حيالها، كلٌّ حسب طبعه. فهذه الأبيات يمكن أن تعبر عن موقف أبي الغَمر ذاته، وليست بالضرورة دليلاً على تناقض الثّقافة العربية. وأستاذنا العلي، هو صاحب مقولة الحس الاجتماعي في الشعر العربيّ، خير من يعرف قيمة مثل هذه الأشعار من منظور الحس الاجتماعي. فهو لن يقبل بأن تنقل لنا أخبار الشجاعة والكرم دون ما يخالفها؟ إن في ذلك نوعًا من تغييب الحس الاجتماعي، خصوصا الفكاهيّ منه.
وقد وقف العلي أيضاً على ما أسماه تناقض المتنبي، فقال: «من السّهْل جداً معرفة تناقض المتنبي الذي وقف هو أيضاً في مواجهة العالم، ولم يكن رومانسيا بالطبع». وأورد شواهد من شعره عدّها متناقضة، كقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بُدُّ
وهو القائل على صعيد آخر:
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ
فمنِ العجزِ أن تموتَ جَبَانا
ويتساءل: «كيف لي أن أوفّقَ من ناحية نفسيّةٍ وسلوكيّةٍ بين هذا المضمون وذاك، ومع ذلك لو قرأت البيتينِ معًا على حشدٍ؛ لاهتزت الرؤوسُ لهما معًا، كيف نتعلمُ القراءةَ غيرَ المتناقضة؟ هذا ما لا أعرف الإجابة عليه».
وردت لفظة «بُد» في كلا البيتين، والبُدُّ هو المفر والمهرب، وشيء لا بدّ منه؛ أي لا مفرَّ ولا مناص. معنى ذلك أنّه أمر محكوم بحكم الضرورة، فلكل موقف ضروراته، وهذا أمرٌ طبيعيّ. ولنا أن نتساءل: هل من القراءة غير المتناقضة أن نقتطفَ بيتين من قصيدتين مختلفتين، قيلت إحداهما عام 335هـ، في الطريق بين أنطاكية ودمشق، وقيلت الأخرى بعد عام 346هـ، في مصر، ونضعهما في سياقٍ نفترضه: اسمه سياق التّناقض؟!
إنّ من شروط التّناقض بين موقفين اتحادهما في الزمان والمكان، وقد اختلف زمان البيت الأول ومكانه عن زمان البيت الثاني ومكانه. هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتلاقى بيتا المتنبي مع بيتي زهير، فالمتنبي يُشيدُ كِيانا من الحكمة، خلاصتُه: إنّ الحُرَّ يحتاج إلى مصانعة الجاهل الأحمق، والوغد اللئيم، وإظهار المجاملة؛ توقّيًا من شرورهم، وهذا «من نكد الدنيا على الحرِّ»، وهو أمر يواجه كل إنسان في حياته اليوميّة. أما البيت الآخر، فيقول: إذا لم يوجد من الموت مفر، ولا نجاة منه لشجاع أو جبان، فبئس الخيار عند المواجهة خيار الموت جبنا. وهو هنا يتلاقى مع زهير أيضا، فالذَّوْد والمواجهة واحد. ونخلص إلى عدم تناقض بيتيْ المتنبي لاختلاف موضوعهما، فالمصانعة في محلها صواب، والمواجهة في موضعها صواب!
إنّ التناقض شرط إثراء حسب تعبير سيف الرحبي، وقد يكون التناقض دليل جدل وتطور وتوليد، والعقل الإنسانيُ جدليٌّ بطبعه، ينتج التناقضات بشكل دوريّ من تلقاء نفسه. وقد تحدّث أكثر من ناقد عن أنّ المتنبي مولع مع سبق الإصرار والتَّرصُّد بظواهر معنويّة ولفظية، منها التّقابل الدّلالي، والتّقابل التركيبيّ، والمقابلة بين الأضداد، والجمع بين الألفاظ وضدها، والمعاني وضدها، طلبًا لتوليد الدلالة، وانفتاحا على استثمار إمكانات التقابل التعبيريّ في الخروج على المألوف، وتجاوز السّائد، فهو صاحب القول الشهير: وبِضِدّها تَتَبَيّنُ الأشْياءُ. وفي ديوان المتنبي ما يربو على ثلاثين بيتًا تنهض على ظاهرة المقابلة بين المتنافرات ألفاظًا ومعانيَ، فهذه ظاهرةٌ تتجاوزُ مقولة التّناقض إلى ما هو أبعد منها، وقد درسها كلٌّ من الدكتور شوقي ضيف في كتابه «الفن ومذاهبه في الشعر»، والدكتور إبراهيم عوض في كتابه «الجمع بين المتناقضات في شعر المتنبي».
ختامًا أؤكد: إنّ ثقافة الأمة العربية ليست بريئة من التناقض، شأنها في ذلك شأن أيّ أمة أخرى، ولكن الأمثلة الشعريّة التي قدّمها أستاذنا العلي ليست كافية ولا مقنعة في إثبات دعوى التناقض العربي، ولا تشكل برهانًا مقنعًا على حجم الإشكالية التي أسس لها نظريًّا.
** **
- جابر الخلف