أذكر الآن أنّ المرة الأولى التي التقيت فيها شاعرنا وأديبنا الكبير محمد العلي كانت ذات مساء جميل في دمشق في السّنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي. كنت في تلك الفترة شابًا في منتصف العشرينات من عمري، وأذكر أني سمعت عن محمد العلي وشعره، قبل أن ألتقيه في ذلك المساء معيّة صديق مشترك لنا نحن الاثنين، كان له الفضل في ترتيب ذلك اللقاء، أو فلنقل دعوتي لمشاركتهما جلستهما في مطعم بالطابق الأخير من أحد فنادق دمشق، ولعلي لم أكن، وقتها، قد قرأت الكثير من شعره، ولكن شخصية محمد العلي الآسرة، المحبة للحياة، وثقافته الواسعة شدّتاني إليه، ما جعلني أحرص، تاليًا، على أن أقرأ له كل ما سيقع بين يدي من أشعاره ومقالاته.
الحق أني لم ألتق بمحمد العلي، مرة أخرى، بعد هذا اللقاء، إلا بعد سنوات طوال، ومثلما أذكر لقائي الأول معه، فإني أذكر جيداً لقاءً آخر جمعني به قبل سنوات قليلة، في البحرين هذه المرة، ورغم مضي الزمن فإني وجدت في محمد العلي نفس الروح الآسرة التي لاحظتها في لقائنا الأول، حيث تدفق في الحديث عن ذكريات مختلفة له وعن تجربته الأدبيّة والشعريّة، وكان مصدر بهجة وفخر لي حين عرفت منه أنه يتابع ما أنشر من مقالات في جريدة «الخليج» الإماراتيّة، وأسعدني انه كتب بعد حين مقالاً عنها في جريدة «اليوم» سأظل أعدّه من أجمل الشّهادات وأعزّها إلى نفسي.
ربما في هذا اللقاء بالذات تحدث محمد العلي عن لقائه بالمفكر اللبناني حسين مروّة، عندما كانا شابين قصدا، كل من بلده، مدينة النجف بالعراق لتلقي العلوم الدينية فيها، ولكن الرجلين لم يصبحا رجلي دين كما اراد لهما أهلهما، أو كما كانت غايتهما من الذهاب إلى النجف، وإنما سيغدوان رمزين من رموز الفكر النيّر والحداثة إن على مستوى بلد كل واحد منهما، أو على المستوى العربيّ، ولعل هذا يفسر العنوان الذي اختاره حسين مروّة للكتاب الذي وضعه، قبل رحيله، عن سيرته، وهو: «ولدتُ شيخاً وأموتُ طفلاً»، ومحمد العلي مثل حسين مروة ولد لكي يكون شيخًا، ولكن الحياة حملته إلى المسارات التي تتلاءم مع روحه وشخصيته، فأسهم، وهو في العراق، في تأسيس العديد من الجماعات والرابطات الأدبية في بغداد والنجف، وتعرّف على تجربة الأدب الحديث في العراق، وكان محظوظًا لأنه عاصر بدايات تجارب الشعر الجديد في العراق، حتى أنه حفظ عن ظهر قلب ديوان بدر شاكر السياب «شناشيل بنت الشلبي»، على ما يُروى عنه.
هيأت هذه البدايات التّأسيسيّة المهمة لمحمد العلي لأن يكون رائدًا من أهمّ رواد الحداثة الشّعرية والأدبية في بلاده، حيث لا يمكن التأريخ لبدايات هذه الحداثة ومراحل تطوّرها دون الوقوف المتأني عند تجربته في الشّعر وفي الكتابة عامة، والتتبع الدّقيق والتّفصيلي لمصادر هذه التّجربة وتحوّلاتها وتأثيراتها على مجايليه وعلى الجيل اللاحق من أدباء وكتاب السعوديّة.
ولعلّ هذا ما فعله الشاعر علي الدميني في كتابه عن محمد العلي، حين لم يحصر حديثه، وهو يبحث في الحداثة في المجتمع السّعودي على التجارب الشّعرية والسّردية والدراسات النّقدية وحدها، وإنما ذهب إلى ما يتسق مع رؤية ومواقف محمد العلي نفسه من الحداثة وتجاهها، بوصفها مشروعًا فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا اشتمل في حركته على قيم التنوير كالعقلانية وحرية الفكر والضمير والتفكير والإبداع والتقدم، وهذا ما نلمسه ليس فقط في شعر العلي، وإنما في مجمل مواقفه، وفي مقالاته العّميقة، الرّشيقة، الشّائقة التي تنمّ عن سعة فكره، وعن بانوراما انشغالاته الفكريّة، التي تظهر ما للرجل من مكانة ودور في الفكر الجديد في السعوديّة وفي المنطقة الخليجيّة عامة.
** **
- د. حسن مدن