الأستاذ محمد العلي، قامة فكرية ووطنية، تعرفت على نتاجه الفكري منذ أكثر من خمسة عقود، حين كان يكتب عموداً يوماً في صحيفة اليوم، تحت عنوان بعد آخر. واستمرت متابعتي بكتابته، ومن ثم ما ينشر في مجال الفكر والأدب، شعراً ونثراً. وقدر لي في مراحل لاحقه، بنهاية التسعينيات من القرن الماضي، بعد غيابي الطويل عن الوطن، بالولايات المتحدة الأمريكية، اللقاء به. وتوج ذلك بزيارتي له في منزله العامر، بمدينة الدمام، ثم تكررت لقاءاتنا في بداية هذا القرن. وأزعم رغم قلة لقاءاتنا أنني أضعه في الأعلى من قائمة. الأشخاص الذين اعتز بصداقتهم، وأكن لهم كل الاحترام والتقدير. مصدر الاعتزاز بالأستاذ محمد العلي، لا يمكن في كاتب ومفكر، ورائد من رواد التجديد، بل وأيضاً في البعد الإنساني والأخلاقي، الذي ينحاز له أستاذنا الكبير. فالفكر بالنسبة له، ليس ترفا فكريا، أو غاية مجردة عن هموم الإنسان ومستقبله. حين زرته في منزله، لفت انتباهي، اهتمامه بجميع إصدارات المفكر العراقي الأستاذ علي الوردي، واكتشفت بعد متابعتي لكتاباته، التشابه الكبير بين العلي والوردي، فكلاهما كاتب مجدد وملتزم، وكلاهما يستخدم قلمه، من أجل صناعة مجتمع تتراجع فيه الخيالات والخرافات والأوهام، وهما وإن لم يفصحا عن ذلك، حسب علمي، ينتميان إلى مدرسة الواقعية الجديدة، حيث الثقة والتفاؤل بالإنسان، وبقدرته على تخطي الصعاب، وصناعة مستقبله. الأستاذ العلي، في كل مسيرته الفكرية، لم يحد مطلقاً عن صفة الكاتب الملتزم. وحين يكتب تراجيديا، في بعض الأحيان، فالهدف من التشريح، بالنسبه له، ليس تكريس اليأس، بل التحريض على تجاوز الواقع الاجتماعي المعاش إلى ما هو أرقى منه معنى ومضمونا. وهو «لا يخفى ذلك، بل يعلنه جهاراً. إنه يفضل كما يقول، بأن» يعرف بجهده في تغيير الفكر الاجتماعي، وهذا يكفي. يهتم العلي بالتاريخ، ويستشهد كثيرا في مقالاته بالمتنبي، ولكن لا يسكن فيه، بل يسخره لهدف أسمى، فالمستقبل هو بوصلته المستمرة، وحتى الحاضر بالنسبة له، وهو محطة عبور، لنقل المجتمع العربي، إلى حال يتحقق فيه التقدم، والنماء ونصبح فيه جزءا من الحراك الكوني المستمر إلى أمام. الأستاذ العلي، هو بجدارة من الطراز الذي وصفه انطونيو غرامشي، بالمثقف العضوي، وليس من طبقة الانتلجنسيا، التي تختار التمترس في بروج عاجية، وتمن على المجتمع الذي تعيش فيه، بما تنتجه من أعمال إبداعية، لا تضيف شيئاًلى تقدم المجتمع ونمائه. الأستاذ العلي، اختار أن يكون مبدعاً ومجدداً، في الممارسة والسلوك في آن معا. فاحتضن العشرات من جيل الجدد، ومنحهم ثقته ومحبته، تعلموا منه ومن مدرسته، وباتوا في مراحل لاحقة رواد له... بعضهم واصل ذلك وبعضهم اختار أن يستقل بطريقه. وباتوا شعراء، وكتاب ومبدعين يشار لهم بالبنان في الوطن العزيز... ولم يكن ذلك سوى النزر اليسير من حصاد أستاذنا الكبير. لم يكن التزام العلي بالتجديد الاجتماعي، على حساب الإبداع. فهو بحق من أفضل شعراء البلاد. لا يتقعر، ولا يقحم الثقيل من المفردات، بل يكتب بجزالة ولغة قوية وتنساب الكلمات من براعه رقراقة وجميلة، وكتاباته، أقرب إلى السهل الممتنع ة. تنهي قراءتك مقالة له أو قصيدة فاطلب المزيد، حيث القدرة على التسلل بالكلمات إلى العقل والقلب، والروح. والراهن بالنسبة له يحمل دائما تباشيير الولادة.
دارين توحي لي الآن/ هيا اكشفي لي الجراح التي نهلتها الرماح/ وتلك التي وضعت في الحقائب/ كل السنين الطويلات (يخرجن بجر الحقائب) منك/ وما زلت مفعمة كالعناقيد/ ناضجة كعناق المحبين/ حسناء.. حسناء.. حتى هطول الصباح.
أمد الله في عمرك أبا عادل وجعلك نبراساً لهذا الجيل وللأجيال القادمة.
** **
- د. يوسف مكي