- 1 -
يلحظ قارئُ تاريخنا الأدبي وجودَ فراغ كبير في تاريخ أدب شبه الجزيرة العربية، في المدة من القرن الحادي عشر إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، حتى كأنّ صوتَ الأدب قد توقف تماماً خلال هذه المرحلة.. فهل الأمر كذلك؟
الإجابة المؤكدة: لا، وكلُّ ما في الأمر أنّ اللغة الفصيحة لم تكن - خلال هذه المرحلة - خياراً متاحاً للإنسان كما هي اليوم، ولم تكن ثمة مؤسسات تُعنى بنشرها أو بتنمية الثقافة إلا في أجزاء محدودة من شبه الجزيرة العربية؛ لذلك كانت اللغة العامية - وقتها - الحاضنة الوحيدة لهموم الفرد وهواجس المجتمع (القصص، الأساطير، الأخبار، الأمثال، الأشعار، الحكم...إلخ)، وكان الفكر العامي هو المجال الوحيد الذي تنشط فيه عمليات التأمل والتفكير والتعبير.
ثمة أدبٌ إذن في تلك المرحلة، تدلُّ عليه الذاكرة الشعبية، وما أودعته محاولات التدوين، لكننا لا نجد له تمثيلاً في البحث العلمي، ولا مقابلاً في تاريخنا الأدبي المدوّن، خاصة في مؤسساتنا الأكاديمية، فما السبب؟
- 2 -
السبب - باختصار - هو أن الذين تولوا أمر الدرس الأدبي والنقدي كانوا ممّن وُلِدوا في مراحل النمو والازدهار وشيوع التعليم والمؤسسات، فتهيأت لهم فرصةُ اكتساب اللغة الفصيحة، والاعتماد عليها في التعلُّم والتعليم والإعلام والعمل والإنتاج الثقافي، ودفعهم هذا الامتياز الذي حصلوا عليه بالصدفة إلى الاستعلاء الثقافي على تلك المرحلة، والاستعلاء الضمني على إنسانها، وعلى خياره الوحيد في التفكير والتعبير، وقد عبّر بعضهم عن هذا الاستعلاء بوصف أدب تلك المرحلة بـ (الانحراف) عن القاعدة اللغوية، (والضعف) على مستوى الفكر، (والضيق) في التجربة الحياتية، (والاختلال) من جهة الأدوات، ولم يجدوا فيه - تبعاً لهذه الرؤية - ما يصلح للبحث حتى من الجوانب السياقية والثقافية، وقد وضعت هذه الرؤية القاعدة الأولى لتحيّز الجامعات ضدّ أدب تلك المرحلة!
صحيح أننا شهدنا في العقود الأربعة الماضية محاولات من داخل المنظومة الأكاديمية المحلية لدراسة الأدب العامي، لكنها استُنْزِفَت في مطارحات الفعل وردّ الفعل، ولم تكن الفرصة مُهيّأة للتفاعل الواعي معها.. حتى المحاولات التي مضت فعلاً في دراسة هذا الأدب لم يُكتب لها النجاح؛ لأنها لم تكن محكومة بالتوازن، ولم تُربط جيداً بطبيعة المدونة وحاجات الدراسة، فتآكلت من الداخل قبل أن تسد الثغرة التي أشرتُ إليها في المستهل.
- 3 -
ولأنني على يقين تام بأننا نعيش اليوم في مرحلة مختلفة ثقافياً، تقوم على مراجعة المواقف والتصورات؛ فإنني أتطلع إلى إعادة النظر في العلاقة بين جامعاتنا والأدب العامي، ولا سيما في مجالي (الأدب والنقد) و(علم الاجتماع)، ويمكن أن أحدّد ملامح هذا التطلع بالآتي:
- فتح الباب لطلاب الدراسات العليا لتسجيل موضوعات بحثية تتعلق بمدونة الأدب العامي في شبه الجزيرة العربية، تقوم على مناهج ومنهجيات ونظريات حديثة.
- يمكن في البدء تحديد نطاق دراسة الأدب العامي بالمرحلة التاريخية التي سبقت تأسيس الدولة السعودية الثالثة، وهي مدونة محدودة من حيث الكمّ، لكنها ثرية إذا ما نظرنا إليها من زوايا تاريخية ونفسية واجتماعية وثقافية، وقد تكون قادرة على الإجابة عن أسئلة ما زالت عالقة في حقول التاريخ والجغرافيا والمجتمع.
- يمكن قصر البحث في هذه المدونة على مرحلة الدكتوراه، مع وضع شروطٍ موضوعية على الباحث، مثل: معرفته بالأدب العامي، واتصاله الوثيق بالبيئة المنتجة للعينة المدروسة منه.
- يمكن تحديد الدراسة بشكل أدبي، أو بظاهرة بارزة في المدونة، أو بمدونة واسعة، والهدف من هذا التحديد تجنُّب الدوران الثقيل على تجربة أدبية مفردة (شاعر بعينه مثلاً).
- يمكن أن تقوم دراسات هذه المدونة على مناهج ومنهجيات ونظريات سياقية (تاريخية، نفسية، اجتماعية) أو دراسات ثقافية، أو نقدية ثقافية، أو دراسات اجتماعية وإنثربولوجية، ومثل هذا الإجراء يتجاوز بنا المنطقة التي تعثرت فيها المحاولات السابقة، وهي منطقة اللغة، ممثلة بالدراسات اللسانية والإنشائية.
- 4 -
إن الأدب ظل للحياة.. للحياة الخاصة (التي تمثلها تجربة الفرد) والعامة (التي تمثلها تجربة المجتمع)، والاستغناء عنه أو استبعاده من البحث العلمي لأي سبب خطأٌ بيّن، ينازع أولَ ما ينازع العلمَ بحقيقة الأدب، والمعرفة بمكوناته التي تُولَد في لحظة ضاغطة ثم تكبر وتتسع لتشمل الخاص والعام، والشعبي والعالِم، والوعي والعقل الباطن، وما يقوله المبدع وما يمكن أن يقوله النص والقارئ.
وكلَّما اقترب هذا الأدب من مرحلة تاريخية مجهولة أو منسية أو معتّمة، كانت أهميته أكبر، ودراسته مُلِحّة؛ لأنه - والحال هذه - الوسيلة الأصدق للتعبير عن الإنسان، ومتى أدركنا الإنسان أدركنا بإدراكه حقيقة الزمن، وطبيعة المكان، وخريطة الوقائع.
هذه الحقيقة كما أراها، وأظن أن جامعاتنا مخيّرةٌ أمامَها بين خيارين:
- إما تذكّر ذلك الإنسان..
- وإما نسيانه!
** **
- د. خالد الرفاعي