د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هناك مثل عربي مشهور يقول: أشبعتهم سباً وفازوا بالإبل. وله صياغات مختلفة، منها: أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل. ومنها أيضاً: أوسعتهم سباً، وأودوا بالإبل. وبمقدار الاختلاف في صياغته كان الاختلاف في سبب إطلاقه، فقيل أن رجلاً كان في المرعى مع إبله وغنمه فقدم إليه لصوص وسرقوا إبله وساقوها معهم، فأخذ في سبهم وشتمهم بأقبح العبارات وأشدها، فأطلق الناس ذلك المثل، وهناك من نسبها إلى زهير ابن أبي سلمى أو ابنه كعب، وأياً كان الأمر فإن المثل أصبح مشهوراً متداولاً على ألسنة الناس، وصاغ الشعراء معناه في أشعارهم.
ومعنى المثل واضح، فهو يضرب لمن غلب على أمره، ولم يستطع رد الظلم بيده، فإنه يشفي غليله بالسب والشتم، وفي رأيي أن ذلك ليس الأفضل نهجاً، ولو رفع يده إلى السماء وطلب من الله عز وجل أن ينصفه ممن ظلمه، لأصاب، فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، لكن هذا الرجل لجأ إلى لسانه، بينما في إمكانية رفع يديه إلى السماء بقلب صادق مخلص، فالله سينصفه من أولئك البشر الظالمين، فهو أقرب إليه من حبل الوريد.
هناك من أطلقوا لألسنتهم العنان لسب وشتم ظالميهم، أو منافسيهم، أو حتى متجاهليهم الذين لم يقدروهم، لكن لم يصل إلينا ذلك السباب، لأن المؤرخين لم يسجلوا قصصهم، كما لم يكونوا شعراء معروفين ليتناول الناس شعرهم ويسجلونه في دواوينهم، وهذا النوع من التعبير من خلال السب والشتم ليس جديداً، وإنما كان يمارس منذ آلاف السنين، فالفراعنة مثلاً أو إن صح التعبير، ملوك مصر، يكتبون أسماء أعدائهم على صحون من الخزف ويكيلون أنواع اللعنات عليهم، ثم يرمون بها على صخرة لتتكسر إلى أجزاء صغيرة، وهذا تعبير عن سخطهم عليهم، كما أنه رجاء بأن يكسر الله شوكتهم كما تتكسر هذه الصحون على الصخور، وهذا ما يسمى بلعنة الفراعنة. هذه الممارسة كانت وما زالت سائدة تطلقها فئة من شعوب الأرض للتعبير عن مكنون صدورهم، ويبدو أن ذلك سيستمر، ويبقى ما يسطر بأسلوب أدبي أو شعر جميل، تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
ليس كل ما يسطر حقيقة، والإنصاف غالباً ما يغيب عند الذم والهجاء، فمثلاً المتنبي قد أسرف في هجاء كافور، وصحيح أن كافور مملوك خصي، كان وصي، على صبي، وتخلص منه للانفراد بالسلطة، لكنه ضبط البلاد، وفيه من الصفات الحميدة، والخلال المجيدة، ما يجعل الثناء عليه أجدر بمدحه أكثر من هجائه، لكنه تشفي المتنبي لأنه لم ينل مراده.
ولا أجد وصفاً لهذه الحال أفضل مما قاله أبو حيان التوحيدي عندما سأله الوزير عن الصاحب بن عباد قائلاً له: إنك كنت قد خبرته، وحضرت مجلسه، فكان جواب ابن حيان رائعاً كما هو رائع، فقال: إني رجل مظلوم من جهته، وعاتب عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وأن وصفته أربيت منتصفاً، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب أو عارياً منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق، على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها، فإن جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى
ولا يعلم الإنسان ما في المغيب
لكن الوزير لم يقبل عذره، وأصر على أن ينسخ له الرسالة من المسودة، وتعهد له بأن لا عين سترمقها، ولا أذن ستسمعها، ولا يد ستنسخها، والوزير يطلب منه أيضاً أن يكون منصفاً بوصف ما جبل عليه الصاحب بن عباد، أو ما كسبت يداه من خير وشر، وهذا غير منكر ولا مكروه، وطلب منه أن يذكر له من أمره ما خف اللفظ به، وسبق الخاطر إليه، وحضر السبب له.
ولم يكن ابن حيان راغباً في نسخ تلك المسودة، لكن إصرار الوزير جعله يخشى سخطه عليه، لأنه يعلم أن ما فيها من القدح كفيل بأن يفقد حياته، لأن الصاحب بن عباد سريع الغضب، شديد العقاب، وتمنى لو أنه لم يتلفظ بذكر المسودة، كما أنه يعلم أن ما كتبه عن الصاحب بن عباد، وابن العميد لم يكن منصفاً فيه، وإنما كان للتشفي منهما، لأن الصاحب بن عباد لم يقربه ويدنيه، ولم يعطه من المال ما يكفيه.
وابن حيان كثير التذمر، قليل الصبر، محدود القناعة، حتى وإن تحدث عنها بكل جميل، ولو أسديت إليه الكثير من المعروف واعتذرت عن طلب واحد له، لانهال عليك بالعذل، وربما القدح، لأنه لا يقبل بالقليل، وإنما يريد الاستمرار في العطاء بلا نهاية، وبهذه النفسية والطباع كتب أبو حيان رسالته المسماه أخلاق الوزيرين، ضمنها الكثير من القدح، والقليل من الثناء، لأنه حقاً كان غير منصف، وهذا ما ذكره في حديثه مع الوزير لصعوبة الإنصاف ممن لم يوقره ويحترمه ويجله ويكرمه.