أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: توثيق النص يعني التأكد من صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وتخريجه يعني نسبة كل قول إلى قائله خلال الكتاب؛ فيدخل في ذلك تمييز ما يضيفه راوي الكتاب أو ناسخه أو متملكه من تهميش أو تحشية؛ ويدخل في ذلك النصوص التي يعزوها المؤلف إلى مصادرها؛ فأما نسبة الكتاب إلى مؤلفه فلها أحوال: منها: أن يكون المؤلف مجهولاً؛ فيجتهد المحقق بوسائله الثقافية في معرفة المؤلف؛ فينسب الكتاب إليه بيقين أو رجحان أو تقريب.. ومعنى التقريب أن يحاول تحديد عصر المؤلف المجهول أو بلده أو مذهبه، ولا بد أن يدوِّن المحقق كل الاستنتاجات والاستدلالات التي أقام عليها حكمه.
قال أبو عبد الرحمن: ومن الخدمة العاجلة للمحققين أن يتفرغ باحثون لدراسة الكتب الخطية التي لم ينسبها المفهرسون إلى مؤلف مُعيَّن (ويُنشر اجتهادهم من أجل أن يكون في متناول المحققين)؛ أو يتبنى معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية عمل فهارس بهذه الكتب متضمنة الاجتهاد في معرفة محققيها؛ ومنها: أن يكون الكتاب ذا وشيجة بمن نسب إليه، وإنما الخلاف في كيفية عمل من نسب إليه: هل ألّفه ورتّبه بنفسه ولم يضف إليه ما ليس من عمله، أم أنه أملاه ورتبه المستملي وأضاف كـ(آمالي) الإمام عبدالرزاق بن همام، أم أنه مستنتج من أقواله ومذاهبه، أو أنه وضع منهجه؛ وحينئذ يكون الاجتهاد في تحديد كل عمل وتمييزه بفاعله.. ومما هو من هذا الباب کتاب (العين) للخليل، و(المدوّنة) لمالك، و(الأم) للشافعي؛ فعلى المحقق أن يستوفي أقوال العلماء في توثيق نسبة الكتاب ويبين ترجيحه أو يقينه مصحوبًا باستدلاله واستنباطه.. ومنها: أن يكون الكتاب منسوبًا إلى مؤلفه، ولم يجد المحقق ما يُشكك في نسبته، ولا يعلم خلافاً في نسبته؛ فلا ينبغي له أن يبرهن على صحة نسبته، ولا ينبغي له أن يصنع شكَّاً حوله، ليبرهن على تزييفه، وإنما حسبه ما يذكره في التعريف بالكتاب والإحالة إلى من ذكره من العلماء ولا سيما كتب البرامج ذات الإسناد؛ فإن لم يجد للكتاب ذِكرًا في المراجع، ولم يجد من نقل عنه فمن الضروري أن يستنبط من واقع الكتاب وواقع المؤلف ما يدل على صحة نسبته إليه.. ومنها: أن يكون الكتاب منسوبًا إلى مؤلف، ولكنه علم بوجود شك مأثور في نسبته أو اكتشف المحقق نفسه ما يثير الريبة في صحة نسبته؛ فعليه أن يحقق الأمر؛ ووجود مادة مقحمة في الكتاب لا تعني الشك في نسبته إلى مؤلفه؛ وإن كانت المادة مما حدث بعد وفاة المؤلف؛ وذلك حين يقوم البرهان على أنها من إضافة الراوي أو المتملك أو الناسخ؛ فعلى سبيل المثال: کتاب (جمهرة أنساب العرب) لا شك في نسبته للإمام ابن حزم، إلاّ أنه قام البرهان على أنّ ما أقحم فيه من أحداث بعد وفاة ابن حزم عام 456 هجرياً إنما هو من إضافة الناسخ، وغفلة الناشر.. وكتاب (التذكرة) لا شك في نسبته إلى مؤلفه الحميدي 488 هجرياً، ولكن ناسخه، سبط ابن حجر العسقلاني، أقحم فيه نصَّاً برواية شمس الدين الذهبي الذي ولد بعد وفاة الحميدي بما يزيد على قرنين.. انظر كتابي (الذخيرة من المصنفات الصغير) 1/ 168 - 169؛ ومن الكتب التي طبعت منسوبة إلى غير مؤلفها كتب (إعراب القرآن)، فقد نسبه المحقق إلى الزجاج بصيغة التمريض، فقال: المنسوب إلى الزجاج.. وكان من الأَوْلَى أن يقال لمجهول؛ لأنه صح البرهان القطعي أنّ الكتاب ليس للزجاج، ولم يقم برهان راجح على أنه لمكي بن أبي طالب.
قال أبو عبد الرحمن: وقام البرهان على أنه ليس للزجاج باطلاعي على نسخة مخرومة من كتاب الزجاج صوَّرتها من المغرب، ثم طبع الكتاب بعد ذلك كاملاً وثبت بآخره أنه لجامع العلوم الأصفهاني الباقولي، كما حقق ذلك الأستاذ أحمد راتب النفاخ في بحث طويل نشرته (مجلة مجمع اللغة العربية) في دمشق؛ ومن الكتب المطبوعة التي تضمنت إضافة إلى عمل المؤلف کتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد بن حنبل، وهي إضافات ابنه عبدالله والقطيعي، وقد بين ذلك المحقق في مقدمته، ولكنه لم يمّيزه في صلب الكتاب؛ ومن الكتب المطبوعة منسوبة إلى غير مؤلفها كتاب (الفلك المشحون) ليونس المالكي، طبع منسوبا إلى السيوطي؛ ومن الكتب المطبوعة التي تحتاج إلى تحقيق صحة النسبة إلى المؤلف كتاب (أخبار النساء)، وكتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب إلى ابن قتيبة، وکتاب (المشوق).
قال أبو عبدالرحمن: عن الكتب التي نسبت إلى غير مؤلفها أو كان مؤلفها مجهولاً يراجع (آمالي) الدكتور مصطفى جواد ص 122،125، 136، و(تحقيق النصوص) لعبدالسلام هارون ص 43 و(البحث الأدبي) ص 171 -172، وعن تداخل الكتب الخطية يراجع كتاب (دراسات تاريخية) للدكتور أكرم ضياء العمري ص 51، ولقد أضاف الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي) في الحديث عن تساهل الأسلاف في نسبة الكتاب إلى مؤلفه ص 381 – 390، كما تحدث ص 380 – 381 عن إضافة مواد أجنبية إلى الكتاب، وتخريج مواد النص ذو ميزتين:
أولاهما: توثيق نسبة النص إلى قائله؛ وهذا يؤول التخريج إلى التوثيق.. وأخراهما: تيسير مراجعة النص من مصدره فهو خدمة للقارئ؛ والأسلاف اعتادوا نسبة القول إلى مؤلف الكتاب لا إلى الكتاب نفسه.. انظر عن هذه الظاهرة كتاب (دراسات في الحديث النبوي) للدكتور الأعظمي ص 382؛ فإذا أورد المؤلف نصَّاً لابن تيمية مثلاً ولم ينسبه إلى أحد كتبه، فسيكون تعيين المحقق المكان النص من كتاب ابن تيمية، خدمة للقارئ بلا ريب، وكذلك تخريج الآية من القرآن الكريم يخدم من لا يحفظ كتاب الله ويوفر له المراجعة؛ وللبراءة من التفريط والإفراط في عمل المحقق، أرى أن يضبط منهج التخريج في التالي:
1- ما كان من العزو العام كنسبة القول إلى عموم مذهب فقهي کالمالكية، أو اعتقادي كالمعتزلة: فحسب المؤلف أن يتأكد من صحة العزو، وليس من الضروري أن يثقل ذلك بتعليقة وإحالة، بل يكون سكوته توثيقًا على أن يبيّن المحقق هذا المنهج في مقدمته؛ فإن وجد العزو غير صحيح، أو وجده مذهباً لبعضهم لا لجميعهم: فعليه أن يُقرر ذلك في تعليقه، ويكون هذا العمل ضروريّاً حينما يكون المؤلف متهماً بتحامله، أو لم يبلغه مذهب مخالفه على وجه الصحة كما قيل عن حكاية الإمام ابن حزم لمذاهب الأشاعرة... وهكذا إذا ورد بيت شعر غير منسوب إلى قائله، فمن كمال التحقيق أن يخرجه وينسبه، فإن لم يبلغ جهده ذلك أعلن في الحاشية عجزه عن الاهتداء إلى القائل، ليترك لغيره من يكمل ريادته بعد أن يسرد المصادر التي راجعها؛ وإن كان الشعر منسوباً إلى قائله، ووجده المحقق في ديوانه أو في مصادر مشهورة، ولم يعلم شكَّاً في نسبته لقائله فمجرد سکوته توثيق له، وإن كان منسوبًا إلى غير قائل بيَّن ذلك في تعليقته؛ أما الاختلاف في روايات الشعر من ناحية اللفظ فلا يُعني به إلا أن ترتَّبَ عليه أثر في استشهاد المؤلف.
2- الحديث الواهي إذا كان متفقاً على وَهْيه، أو كان الجمهور على ذلك: فليحل إلى مصادر كافية معتمدة في تأدية هذا الحكم، وإن كان التوهين أو التصحيح محل اجتهاد فليعرض عناصر اجتهاده بإيجاز واستيعاب معا، ويكون ذلك باختصار مرتّب لما سوّده عند المراجعة. وما لم يهتد إلى مصدره من الأحاديث فليعلن عن قصارى جهده، ويسرد أسماء المصادر التي راجعها، والأحاديث التي تقوم بها الحجة يكون سكوته عنها كافياً في التوثيق، ولكن من الأكمل أن يعين القارئ بإحالتها إلى مصادرها بالباب والصفحة والجزء مبتدئاً بالإحالة إلى المصادر التي ذكرها المؤلف، ويكتفي بالإحالة إلى الأمهات المشهورة، فإن كان الحديث ليس في السنن والصحاح، أو في واحد منها، فيحسن التقصي في الإحالة.
3- قد يرى بعضهم أنه من الفضول الإحالة بالصفحة والجزء إلى كتب مرتبّة المواد كـ(القاموس)، و(الصحاح)، و(لسان العرب)، والإحالة عندي أفضل للاطمئنان إلى رجوع المحقق إلى المصدر مباشرة، وهي ضرورية إذا كانت المادة متشعبة واسعة تبلغ صفحات؛ فحينئذ لا بد من التنصيص على رقم الصفحة كالإحالة إلى جزئية بمادة مطولة كعرب أو سلم أو عرض.. وهي أيضاً ضرورية إذا كان المصدر لم يرتب على المواد كـ(المخصص) لابن سيده، أو ما كان ترتيبه ليس من العرف الثقافي العام كـ(تهذيب) الأزهري.
4- ما ليس لدى المحقق من مصادر المؤلف (إمَّا لأنه مفقود، وإما لأنه مخطوط ليس في متناوله): فعليه أن يحصره في مقدمته، ليعرف القارئ المتتبع مدى مجهوده في التخريج فيكمل ريادته.. هذا هو المنهج الأمثل الأكمل في التخريج، وهو الذي يتيح للمحقق المتعة العلمية بعمله، ويحقق الفائدة واليسر للقارئ.. وقد يُستغني عن التخريج نهائيًّا، وتترك عهدته على المؤلف، ويُكتفى بضبط النص فقط؛ ولهذا المنهج من يدعو ويجري عليه الدكتور المنجد، والدكتور السامرائي؛ وكان شيخنا حمد الجاسر رحمه الله تعالى يميل إليه في الأغلب، وإن كان عمل المحقق ها هنا لا يزيد على عمل النساخ والوراقين.
قال أبو عبد الرحمن: لا يجوز أن ننظر إلى هذا المنهج الأخير على أنه الأمثل، وإنما ننظر إليه على أنه القدر الكافي حال الضرورة؛ وذلك عند قلة العلماء بالتراث والحرص على استغلال نشاطهم، أو حينما يتصدى للموسوعة فرد واحد، فيكون التنازل عن الأكمل في سبيل سرعة نشر العمل وإظهاره؛ أما إذا كان المخطوط صغيراً، أو كانت الموسوعة موزعة على العلماء، فالمنهج الأمثل ما أسلفته.. والأسلاف على وعي بقيمة التخريج في شروحهم وحواشيهم، وبعض العلماء يُعلّق على نسخته الخطية تخريجات بقدر ما تسمح به الحاشية أو الهامش، بل أفردوا التخريج مؤلفات خاصة كـ(الأطراف) للمزي، و(نصب الراية) للزيعلي، و(المغني) للعراقي، و(تلخيص الحبير)، و(تغليق التعليق)، وكلاهما لابن حجر، وما ألّف عن (شواهد) سيبويه، والمثال شارح غير حاصر، وكون التخريج مقتصداً تحكمه الضرورة والحاجة، ويكون مصحوباً بالنص هو أَولى من استقلاله؛ لهذا كان التخريج في تحقيق المخطوطات جمعاً للحسنيين، وتقلّ مؤونة المحقق في توثيق الكتاب عندما تكون النسخة مخدومة.. قال الدكتور مصطفى جواد: (النسخ الخطية يفضل بعضها بعضاً بحسب قدم النسخة أو النسخ وصحتها، وقد ذكرنا أنّ أوثق نسخة هي نسخة المؤلف، أو نسخة مضبوطة عليها، والضبط يكون إما بإملاء المصنف لها على الطلاب، وإما بقراءته إياها أو بقراءته إياها عليه؛ ثم تُثبت القراءة في أول نسخة أو آخرها بتحرير جملة يُذكر فيها القارئ إن كان وحده، ويذكر هو ومن معه إن لم يكن وحده، ويُصدّق المؤلف القراءة كتابة، ويصادق على السند، وهذا ما يسمى السماع، ويجمع على السماعات، وتسمى النسخة المسموعة أو المروية).. انظر تحقيق النصوص، ص 120 في أحد أعداد مجلة المورد.. وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -