اعتلت حكومة المملكة العربية السعودية فاعتنت بالتعليم، فمنذ توحيدها على يد إمامها وسلطانها الملك عبد العزيز رحمه الله الذي صنع مجدًا لأمة كانت مقطعة الأوصال؛ ومقطوعة الوصال؛ تباهى بعض أفرادها حينا من الدهر بالنيل من بعضهم وقد كنفهم وطن واحد؛ فلملم شملهم وشتاتهم وشتات وطنهم وجمع تفرقهم، فجعل الشتات وحدة معصومة؛ فعمل على إلغاء خلافاتهم، واستعمل الكفء منهم، إن كانت وما زالت الفرصة عادلة لمن شاء منهم ألا يحيد عن الرؤية في بناء وطن مجيد، عزيز، شامخ، يزاحم الأمم ليشغل حيزاً ذا وزن ملحوظ، ومجد مغبوط، فضفاض، فاض سناء وضياء في شمال وشرق وجنوب، وفي نجد وحجاز، ومقدسات مسلمين ببكة والمدينة، فالإيمان كان ويكون وسيكون: أن غيرنا ليس أفضل منا، وأننا لسنا أقل من غيرنا.
فوصل رحمه الله وأبناؤه الملوك من بعده بالوطن؛ وبمن كان مكنوف الوطن؛ صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثي، أبيض كان أم أسمر، شمالا كان قاطنا أم جنوبا، باديا كان أم حاضرا، ليكون كل واحد رائدا - وبإذن الله خالدا - في وطيس الحراك والعراك، بناء، وتبديلاً، وتعديلاً، وتقويماً، وتطويراً، لم تفتر له رُحي ولا تُرس، وإن تغيرت تروسه شكلا، وتبدلت رحاه ألوانا، فإن روحه ومضمونه كان ويكون وسيكون: أمة ذات وزن في أواسط الأمم الأخرى، ومكانة تكتسب جدارة غير ممنوحة، فالممنوح يسترد، والمكتسب مملوك. قد لا نجيد مدح ذواتنا، لكن التاريخ والمواقف شاهدنا، {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. انطلقت باكورة البعثات العلمية السعودية الممولة والمدعومة التي أديرت من قبل حكومة المملكة العربية السعودية عام 1927م، وتلتها بعثات زادت في العدد والعتاد، ولم تضع البعثات العلمية لأقطار المعمورة على اختلاف لغاتها وثقافاتها أوزارها حتى يومنا هذا، بل إنها لم تقف حتى في الأوقات التي صاحبتها ظروف اقتصادية صعبة وغير مؤاتية، فرؤية حكومة المملكة العربية السعودية كانت ولا تزال: طلب العلم أني كان، والرهان أن المواطن السعودي قادر أن يكون وفق ما يطلبه الموقف إن سنحت له الفرصة، وفرصة تعليم المواطن السعودي والمواطنة السعودية كفلتها الحكومة، فالبرنامج الأكاديمي غير المتاح في صروح العلم في وطنهما المعطاء يتم الابتعاث إليه من خلال برامج سخية كريمة استشعرها وعاشها أبناء وبنات المملكة العربية السعودية ممن حظي بفرصة الابتعاث، ورأى رأي العين معاملة حكومته له وحرصها على متابعة تقدمه الدراسي وقارنها بمن حظي ببرامج تحويل دراستهم من خلال منظمات وحكومات أخرى، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (7 إبراهيم).
لم تضع البعثات العلمية التي أطلقتها واعتنت بها حكومة المملكة العربية السعودية قيدا البتة لحد أعلى لتمويل دراسة، أو استثمار في عقل المواطن السعودي والمواطنة السعودية، فأي رسوم جامعية لأي مؤسسة علمية مهما بلغت فاتورتها تتولى الحكومة سدادها، بالإضافة إلى دفع مكافآت شهرية للمبتعث ومن يعول من زوجة أو زوج وأبناء وبنات صغيرات أم كبيرات، بل وضم الراغب والراغبة للبعثة للعلم طلبا، مع توفير تأمين صحي لائق ومن غير قيد على قيمة فاتورة المستشفى، فليس ثمة نقاش في صحة المواطن والمواطنة، سواء داخل أو خارج المملكة العربية السعودية، وهذا يجسده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله أفعالا في خطابه إبان جائحة كورونا بأن الحكومة تبذل الغالي والنفيس في سبيل حفظ صحة الإنسان، فأكد في خطابه حفظه الله «.. وبذلنا الغالي والنفيس للمحافظة على صحة الإنسان»، والإنسان في خطابه يشمل المواطن والمقيم حتى من كان مخالفا لنظام الإقامة في المملكة العربية السعودية، وجاء بذلك أمر ملكي سامٍ ليكون جسد هذا الاهتمام.
وبعد استثمار قرن من الزمان في عقل وفكر وتعليم المواطن السعودي تعليما نوعيا خارج المملكة العربية السعودية في صروح المعرفة في أصقاع المعمورة، سلك خلالها المواطن السعودي والمواطنة السعودية دروبا عديدة مضنية وطويلة، يلزم الأكاديمي السعودي وبخاصة من تبوأ وظيفة أكاديمية ومنصبة أكاديمية على سلم أعضاء هيئة التدريس في صروح الوطن الشامخة والناشئة، ليكون معلم الناس الخير، ومنتجاً للمعرفة بحثاً وسبراً، أن يأخذ على نفسه الاضطلاع بدوره المفترض أن يقوم به يوم وافق على البعثة وليتم الصرف عليه من خزانة الدولة، بأن يكون محركاً للتنمية العلمية، ومنمياً للمعرفة، ودافعاً لعجلة التنوير والتعليم في المملكة العربية السعودية، ومثرياً للمعرفة لتستفيد منها البشرية قاطبة، ليلمس الآخر فضل المملكة العربية السعودية أمة على باقي الأمم، والأمم تدين لمثيلاتها بعلم مسبور مزجوج ومشطور، وطرح متاح في منافذ النشر منثور، تستقي منه أمم الأرض ما تصلح بها شؤونها وأحوال شعوبها، فمستهلك المعرفة يدين لمنتجها، ويحق للمملكة العربية السعودية أن تدين لها الأمم بإنتاج أبنائها وبناتها المعرفي، ومخترعاتهم، وبنات أفكارهم، ولكي تدين الأمم لها على أبنائها وبناتها الزج نتاجا بما قد يوجب هذا الدين لوطنهم على شعوب العالم وعلى الأمم التزاماً.
إن مما يعين على تكوين مصانع ومعامل إنتاج المعارف والعلوم في الجامعات السعودية وبخاصة العريقة منها والشامخة - وكلها في شموخ إما شموخ مستقر أو إلى شموخ - يجب (نعم يجب) على الأكاديمي العمل والحفد على تدشين البرامج الأكاديمية وبخاصة في الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه وما بعد الدكتوراه)، وأن يجتهد على أن تكون هذه البرامج نوعية، وأن يسعى مع زملائه وزميلاته في القسم الأكاديمي وفي الكلية والجامعة في تجويد العملية التعليمية في البرامج الأكاديمية التي يتم ولادتها حديثة، فليس عذرا البتة إن احتاج البرنامج الأكاديمي سنوات ليكون مزاحما لمثلائه في العالم، فليس من رد الجميل للوطن التقاعس عن القيام بهذا الدور، فمتى إذن يصل القطار إن لم ينطلق؟ متى نصل بالوطن منافسة الأمم إن لم نبدأ في فتح برامج في تخصصات تهوي لها القلوب التي في الصدور؛ وترنو لتشرب معروضها العقول؛ وهي التي ابتعثت الحكومة لها الطلاب والطالبات زهاء نصف قرن؟
قد أطلقت الحكومة مشكورة ومأجورة البعثات ردح قرن من الزمان، فلماذا لا تتوجه بوصلات طلاب العلم وطالباته في العالم لصروحنا العلمية قبلة في تخصصات معينة؟ أسوة بترؤس بعض صروح العلم في المملكة العربية السعودية قائمة الرغبات، لمن رغب ويرغب في تعلم على سبيل المثال اللغة العربية والشريعة الإسلامية السمحة وسائر العلوم الشرعية والقرآنية والسنة النبوية! بل يفاخر خريجو هذه الصروح أنهم تلقوا تعليمهم من لدن صروح احتضنتها المملكة العربية السعودية، هل بذل أرباب علوم اللغة العربية والشرعية ومن حذا حذوهم ما لم يبذله أرباب العلوم والفنون الأخرى؟
إن مما يزيد ويلح في الّج في السؤال على وجوبية إيجاد برامج أكاديمية في الدراسات العليا هو ما تعلمناه من جائحة كورونا، فأضحت شعوب العالم حبيسة أوطانها، فمن كان وطنه فارغا أو مفرغا من منارات العلم فقد يحل الجهل بأطنابه ضيفا به، فيقيم ردح زمان، إن شر المقامة في وطن جمل أفراده. ومن تجهيل أفراده مدافعة إقامة البرامج الأكاديمية فيه بحجج واهية لا تتناسب وعمر الأمة في التعليم والمعرفة بعمر يناهز عمر المملكة العربية السعودية، إن الاكتفاء الذاتي بالبرامج الأكاديمية والاعتناء بها وتطويرها وتنميتها وازدهارها «هم وطني» مدفوع «بس ذي بعد أمني»، تأمين الوطن من الجهل، وبخاصة في التعليم العالي؛ مروم طلاب علم وطالباته من ذوي الأفئدة والألباب الراسخة والفكر الأخاذ، إن من يناكف ويفتعل الأفاعيل ليعيق مسيرة تصميم وتدشين برنامج أكاديمي معتبر في صرح من صروح الوطن في مسيس الحاجة ليراجع نفسه، فليس هذا زمن نحر البرامج الأكاديمية في التعليم العالي في وطن حوى ثلة أكاديميين صدقوا الله ما عاهدوا عليه، إن حرصوا على تحصينه من مغبة الولوج في ظلمات الجهل تارة أخرى، قد علمنا التاريخ درسا لو فطنا، فلنبرأ بأفراد مجتمعنا أن يكونوا في ضحى يوم عبوس ضحية عدم أخذ الأمر على محمل جلل. فيطبق عليهم الجهل طبقا، ليذرهم في فقر مدقع، مخلي الأوطان ومفرغها من إنس وحيوان، ليس مع الجهل بنيان، هادم بيوت عزيز أهلها.
إن حجة تجويد البرامج الأكاديمية لا تعني البتة حجبه حتى حين، أو ردح سنين، إن برهان التجويد يكون بإفراغ جعب ملؤها علم نافع وفكر ثاقب قادح لامع تكون مع الآخر تلقنا ومماحكة إثراء وقت الابتعاث، فإفراغ المعلوم تزكية، فزكاة علم عليم نشره، وإتاحته للمجتمع فرادى وجماعات، وإفراغ المعلوم المدفوع ثمنه مستحق وفيه أداء واجب. ومن آيات التجويد أيضا العمل يدا بيد، وساعدا بساعد، زملاء وزميلات، في منظومة العمل الجامعي الجماعي المؤسساتي المحوكم نهوضا بالبرنامج الأكاديمي، يجمعهم الإيمان بأن إيجاد برامج أكاديمية نوعية فرض عين لا كفاية، يجتمعون على ما تحقق به «المصلحة العامة»، غالبة ومهيمنة على كل مصلحة فردية كانت أو جمعية، لا يهدم البناء.
قد يجد الإنسان حجاً كثيرة كيلا يقوم بواجبه، وقد يجد حوافز محدودة للقيام بما تبرأ به الذمة، بالنسبة للأكاديمي فيستحضر العقد الذي عقد نيته عليه وقت منح المال من الخزانة العامة للصرف عليه وعلى دراسته ومن يعول، ثم يعيد الذاكرة ليستحضر لعله يدرك كرة أخرى أن الحياة الأكاديمية هي لإشباع الفضول العلمي، والإجابة على تساؤلات لطالما حارت وجالت، فوظيفة الأستاذ الجامعي تمنحه فرصة التفكير والغوص في لج فكر للسبر والبحث يغمره ولا يكاد يغرقه، للإجابة على تساؤلات، بمنأى عن صخب الحياة ووتيرتها المتسارعة؛ لا تأمل فيها ولا تفكير، إلا القليل، إن وفرت صروح العلم هذه البيئة وحضنتها فليس ثمة حجة بعدم القيام بما هو فرض عين، على أقل المقادير.
وإن أبى الأكاديمي السعودي ألا يجد لنفسه حافزا ليقوم بما هو واجب عليه وحق لوطنه عليه، ليعلم حينها أنه مسؤول، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (24 الصافات)، وفي الترمذي في جامِعِه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عُمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه» وأيضا ليعلم حق وطنه وحكومته التساؤل: ماذا عمل بعلمه وما هي إضافته لمنظومة التعليم وبناء المعرفة فيه، ليس فقط تدريساً، وبحثاً منشوراً، وإنما البناء المؤسسي لصروح تبقى، يفنى معها العذر بالجهل، وتبقى بها ولها ومعها أمة خالدة.
** **
مدير مركز البحوث - كلية إدارة الأعمال - جامعة الملك سعود
kaladeem@ksu.edu.sa