د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** مكث مع صاحبه ساعةً أو نحوَها فأعطاهُ دروسًا متتاليةً في الاقتصاد والسياسة والثقافة والفكر وعلم الاجتماع ونظريات الإدارة وفتاوى الفقهاء، وترك المتلقيْ الملقيَ يُشعلُ أناهُ بأحكامه، ولم يُشغلْه بتقاطعاتٍ توقفُ تدفقاته، وانتهت الجلسةُ بنظريةٍ تقويضيةٍ صارمة؛ فكلُّ ما سبق حضورَه «الفكريَّ» يحتاجُ إلى تفكيكٍ من أساساتِه كي يتواءمَ مع اقتناعاته بأن كلَّ شيءٍ في مسارنا التأريخيّ غيرُ مناسب لإيقاع الزمن، كما لا يستجيبُ لما عاشته الحضاراتُ السائدةُ والبائدة من أمجادٍ تالدةٍ وطارفة.
** ليس أجملَ من أن يَسكنَك الصمتُ في مثل هذه الحالات؛ فمحاولةُ الإيقاف أو الاستيقاف ستكلفُ المرءَ بعضَ هدوئه، وقد تقتسمُ شيئًا من مساحةٍ ذهنيةٍ يستعينُ بها على اتزانه واسترخائه، وإذْ بدا الرجلُ في تنظيره يائسًا محبطًا فهو أمام نفسه حكيمٌ مصلح، وقبل أن يودعَه المتلقي أبلغه أنه سيغيبُ عنه طويلًا؛ فلديه مشروعُ إعادة بناء بيته الذي يقيم به بدءًا من صباح الغد، وأردف: هل تصدق أنهم سيأتون على البيت من قواعده، وبالرغم مما يستغرقه عملهم من جهدٍ وآلاتٍ وإمكاناتٍ واحتياطات فسيهدمونه دون مقابل.
** أدرك المُلقي المغرمُ بوعيه المختلف الهدفَ الذي سكن شباكَه وقت صافرة الحكم الأخيرة، وأيقنَ ألا فائدةَ تُرجى من ردِّ الهدف، فأردف المتلقي بإيماءة المنتصر: ما أيسرَ الهدم.
(2)
** في التفاصيل المصطلحية يختلف «التفكيك» عن «التقويض» وإن انطلقا من مَعينٍ واحدٍ أسسه الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا 1930-2004م، Deconstruction
والهدفُ هدمُ البناء القائم من منطلقٍ ثائرٍ على الفكرِ الغيبيِّ الأوربيّ، أو كذا بدا الأمرُ، ونقلُه للثقافة العربية استهداءً به دون مراعاةٍ للمسافات الضوئية الفاصلة بين الثقافتين جعلت فكرة التقويض حيةً في أذهان من انطلقوا من تحليل الواقع البائس فلم يرتضوا حتى برثائه.
** سنتفقُ على أن « القطيعة المعرفية» الهادفة إلى الاستقلال الفكري قابلةٌ للتطبيق النظري في إطار التحرر من التبعية بمختلف ألوانها؛ فللجميع عقولٌ تستطيع استخراج معانٍ ومؤشراتٍ وفتاوى وتفاسير لم يبلغها السلف، كما هي متاحةٌ لمن يجيءُ من الخَلَف، وهذه أبجدية التجديد.
** يبقى التفكيك - بما نفهمه وبما اتجه إليه مبناه المُعرّب - أخفَّ وقعًا؛ فهو لا يدَّعي تخلف الموروث، ولا يدعو لتكويم المخلَّفاتِ والتخلص منها - كما يشاءُ التقويض - فالمفكّكُ يُعادُ تركيبُه وإن لم يرجعْ كهيئته الأولى.
(3)
** وعَينا في حياتنا الخاصةِ بعضَ إرثنا العائليّ، وعرفنا سِيرَ عددٍ من أجدادنا؛ وفيهم المقتدرُ والمفتقر، والعالِمُ والأميّ، والقادرُ والعاجز، ورأيناهم كما هم فلم نقدسْهم ولم ندنسْهم، ولم نبعثرْ الطينَ الذي سكنهم لنعيش في القصور التي سكنّاها، وكذا فإن كلَّ صفحةٍ في تراثنا هي أبٌ وجدٌ وعمٌّ وابنُ عم، وكما نحكي عن إرث أهلنا الأدنين فلا نلغيهم ولا نغلو بهم سنحكي عن تراثنا باتزانٍ وتوازن.
** الهادمُ لا يبني.