.. أحدهم نفث إلي على وجهٍ كالمستفتي عن صديق يلفى من «حبابته» تُحرجًا، زعمًا أنه لا يستحق أكثرها، وفي الوقت ذاته لا يملك لباقة تُساعف.. ليردّ له بالمثل، وليس الصاع صاعين، لأنه- كذا يسترسل- دون ذاك مرتبة، وختم بـ(..رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)(1)
وهذا موقف أحضرت به لآخر.. قال عن خليله ومن فرط التواصل ما كان صباح (كل) يوم إلا ويرسل له دعاءً، وأحيانًا أمانيّ عِراضًا.. لم يبق في كنانه ما يسدد كرم قلب ذاكا.
.. هنا تذكّرة موقف أحسبني قاربت تفسير ما (جال) بخاطره، فما استطاع لضعف أدوات تعبيره(2) نقبًا من خلاله لإيصال ثنائه، وهو أهمس بها لكم/ صادقًا فيما يروم..، فهناك من لا ينبغي أبداً التفريط فيهم، لأنهم كرذاذ الماء في يوم حار، أو
كظلّ شجر في بيد قارّ، أو كفيء في دروب مشمسة، أو هم الكلمة الطيّبة.. من بعد يوم متعب) فهم يشغلون زاوية في قلوبنا بصمت، نعلم أنهم يرجون لنا الخير، وإن كانوا من وراء ستار الظروف التي هي كلٌّ على الغالب... لكنهم موجودون، ومتى حلّت العزايم تجدهم أرجالها(3)...
فاستحضرت موقفًا لعله مماثل، عسى في بسطه أوفّي لصاحبي وجهة ما لديّ، أو أضع نقاطًا فوق حروفه المبهمة/ بالأمس كنت والمدام وصغيرنا نتسوّق.. وحال مغادرتنا السوق وصلت زوجتي رسالة من أمها تبلّغنا قدومها من سفرها فطلبت زوجتى أن نفيض عليها ولو قليلاً، نتحمّد لها المولى - تعالى- على السلامة. هنا اقترحت عليها/ لعل بالغد أوسع وقتًا لكنها ألحّتْ تشفعًا بالشوق منها للقلب الكبير، فلم أشأ أن أحرمها وهج ما تكتنزه لأمها.. رغم أن السفرة أيام معدودة -تعدّ على أصابع اليد الواحدة- «عمرة» لمكة.. أجل آثرت تلبية رغبتها من أن أبخل عليها بهذا الملمس (فالوالدان منزلتهما لا تخفى) عطفنا المسار إليها، وأمضينا في حضرتها بعض الوقت، ولكن ونحن نهمّ بالخروج «دسّت» الجدة لصغيرنا كرتوناً ظاهره لعبة ليفرح (ماديا) بمقدمها، ولا غرو.. فالصغار فرحهم المعنوي بهذه المواقف لم يتبلور بعد، لأن سنّهم واهن المدارك دعونا لها أن يبقيها الله ذخرًا، وأن عساهم - أي أبنائنا- يلحقون(4) برّها.
عدنا للمنزل وذلك من بعد يوم طويل من الأشغال!، الوظيفة.. فالسوق فزيارة الجدة دخلنا البيت والرهقّ يغالبنا، فقام الصغير منكبًّا على اللعبة، وهو يردد أهزوجة للتوّ حفظها بالمدرسة، وكم تُستطعم من فم الصغار/ جدتي يا جدتي*** يا حلوة المبسمي.. هنا أدركنا ما ينتظرنا، فحاولنا ثنيه للصبح، تشفعًا بأن أليس الصبح بقريب؟، أو كذا نستعطفه، لكنه أبداً ألحّ فتحناها فإذا هي - اللعبة- معقّدة، وتحتاج صفاء ذهن، قل هذه كانت مهمة الأم والتي ينتظرها
أيضًا المطبخ لتعدّ العشاء.. ما لكم بالطويلة كما يقال، بلغنا بعد جهد، وتناوش يسبق لتركيب اللعبة، والآن يريد صغيرنا يلعب بها، فإذا هي لا تعمل إلا بحجر صغير جدًا، حاولنا مرة أخرى أن يتريث للغد لكن عبثًا، أقصد مع مين تحكي!، فرأسه ألف سيف ألف سيف إلا تشغيلها فغلبنا هو، إذ تحت إصرار منه قمت لأذهب به وعلى عجل لأقرب بقالة، فيما والدته وقد رأت رهقي خلفه صعودًا لم تجد سوى للتخفيف عنّي تردد: «نبع الحنان خانها التوقيت»..!
التقط ذهني كلماتها لأزيد /ياليت أولئك - الجيل يراعون التوقيت بين عصرنا الذي كنّا شغوفين لأي لعلبة، وعصر هؤلاء الذين أتخموا بالألعاب و.. فالغالية -جدته- أوقعتنا بامتحان بعد منحتها لأبننا، مما تظن -رفع الله قدرها- أنها أفرحتنا وإياه.. لكنّا -نحن - بحالة لا يدري كيف الخروج من بوتقتها إلا علاَّم الغيوب- سبحانه وتعالى- فحسب أن صغيرنا لا يدرك الليل أنه سبات، بخاصة حين أرخى سدوله.. (رسالة..) يشوبها الخجل أن نبديها/ أمي وأبي.. أولادنا نُكرر مشبعون بالألعاب!
أجل، إن لهداياكم عندهم منزلتها، قيمةً وتقييمًا، لكن.. ياليت يُؤجّل (أقصد مراعاة) وقت التسليم، أو تُعط (سرًّا) لأحد الوالدين، وهو قمين بالوقت المناسب للصغير، لأنهما بمثل هذا الشأن يخوضان معركة لا تقف مع صغيرهما عند ساحل!
بالذات وأنتما لا يخفاكما عصرنا الذي يعصرنا من كل المناحي، والنواحي
1) بالمناسبة هذه جملة تتداول والبعض يظنها حديثًا، علق ابن باز عليها (ما بلغني في هذا شيء، معروف بين الناس في كلام الناس، لكن لا أعرف أنه حديث).
2) في الغرب وهذه من السمات التي يحمدون عليها إن لم يكن معك مبلغ للمحامي تنتدب لك المحكمة محاميًا لإغلاق كل شُبه الظلم عنك ولا عجب، فكم ممن معه الحق فمُنع إياه لضعف أدوات تبليغه، وقد شرح هذه الجزئية حديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
3) المقصود ليس (رجال)، بل كما في تفسير للآية {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أو رُكْبَانًا} أي: فصلوا «رجالا»، مشاة على أرجلكم, وأنتم في جهاد.
4) ولست بحاجة إلى الاستشهاد بما تملي عيونهم قبل تعابيرهم (.. ما أغلى من الولد إلا ولده..).