عبدالوهاب الفايز
مرة أخرى نعود لـ(برنامج القدرات البشرية).
لنقول: بما أن هذا البرنامج يستهدف بناء قدرات المواطن السعودي على الإنتاج والتعايش والمشاركة الحضارية مع شعوب الأرض، هذا البرنامج يعطينا الفرصة لبناء مفاهيم جديدة ضرورية للمستقبل.
الأجيال الصغيرة تحتاج في (رحلة التعلم) من الحياة أن تتأسس ذهنيتها ونظامها المعرفي وسلوكها على قيم ضرورية للسلم والأمن الاجتماعيين، وتؤدي إلى الاستمتاع بالرحلة القصيرة للإنسان في الحياة، وإلى الاستمتاع بنعمته الكبرى لعمارة الأرض.
إنها بحاجة لأن تتعلم كيف تطبق وتمارس، عن وعي وإدراك، قيم التواضع والبساطة والقناعة والتسامي على الشكليات الدنيوية، وتعظيم القيم والتطلعات الروحية، والمرونة في التعامل مع مشاكل الحياة وتقلبات الأيام، والتحليل الإيجابي للتحديات والفرص، فهذه مفاتيح (تعلم السعادة).
التحدي التنفيذي للقائمين على البرنامج، ولنا جميعا، هو تهيئة البيئة الملائمة لكي يتعلم الأطفال مهارات الوصول إلى السعادة بأقل تكلفه وبأسهل طريقة. إنه تحد صعب يتطلب عزم وهمة وصبر القيادات وشغفهم بالإنجازات. مهمتهم صعبه، لأن الصغار أصبحوا (مواطنين رقميين digital natives). فحياتهم معلقة طوال اليوم في العالم الافتراضي. الأطفال يأتون للمدرسة مشبعون بالتطلعات والأفكار والتصورات عن حياة الشعوب وتفاعلاتها وأنماط حياتها. و(فورة التطلعات) هذه متوقعة مع التدفق الرهيب للمعلومات التي يتلقاها الصغار في سن مبكرة. في مرحلة التعلم هذه، لدينا فرصة لتحييد التأثيرات السلبية لتدفق المعلومات بالذات محتوى التواصل الاجتماعي الذي يقدم الحياة للصغار كميدان للصراع والتنافس على اكتساب مظاهر الثراء السريع والتطلع إلى حياة النجوم. إنه تشويه متعمد للواقع!
الذي نتمنى أن يكون في أولويات برنامج القدرات البشرية هو تعليم الأطفال على (البساطة الإرادية). وهذه طريقة بديلة للسلوك الاستهلاكي المظهري، وطريقة تُعلم كفاءة الإنفاق على السلع والخدمات الاستهلاكية، وتربي على الاهتمام بالمصادر غير المادية المنتجة للإشباع الروحي. إنها طريقه للحياة.. بسيطة خارجيًا وغنية داخليًا، وهي (اختيار واع) يربي ويهذب السلوك على الرشد في القرار المالي والاقتصادي المؤدي للحياة الكريمة.
لماذا هذا مهم؟ نحن نتجه إلى التوسع في اقتصاد السوق وتعظيم المنفعة الاقتصادية والمالية للمشروعات العامة، وهذه تطرح معها تحديات الرغبة في الشره والتوسع في استهلاك الموارد. اقتصاد السوق الحرة، نظام لا يهتم كثيرا بتعظيم القيام الروحية والمنافع الإنسانية والاجتماعية، ولا ينظر للعائد على الأثر الخيري والإنساني والاجتماعي، ويقوم بتسليع/ بيع كل الأشياء في الحياة.
نظام يركز على تحقيق المكاسب المالية، وتعظيم النمو، والاستمرار في رفع القدرات الإنتاجية للاقتصاد. هذا أمر إيجابي، ولكنه يجلب تحديات رئيسية على موارد الدولة والمجتمع والبيئة. الأجيال القادمة واجبنا تربيتها وتعليمها مهارات وكفايات الاستهلاك الإيجابي لكل الموارد، وتعليمها مهارات تحقيق الاستدامة المالية عبر برامج الادخار، والتخطيط المبكر للتقاعد، والتخطيط والاستعداد للحياة بعد التقاعد. بعض من الجيل المتقاعد حاليا، غير المنتج والمكتئب، هم ضحية غياب برامج الثقافة المالية في أنظمتنا التربوية والتعليمية!
الأخطر على الأطفال التطلع إلى الاستهلاك المظهري المعظم للجوانب المادية، الذي يجعل الهدف الأسمى للحياة هو: امتلاك رموز ومؤشرات الثراء، مثل العلامات التجارية الاستهلاكية الشخصية عالية الثمن. والأخطر هو الاعتماد الكلي على تلبية جميع الاحتياجات الأساسية من خدمات المطاعم والأسواق ومغاسل الثياب، وغيرها. لا مسؤولية تجاه الذات في أدنى الاحتياجات الإنسانية!
واجبنا بناء ذهنية الجيل القادم عن البساطة النابعة من الإرادة الذاتية الخاصة المنتجة لجودة الحياة من الأمور اليسيرة. مثلا، نتمنى تدريس الطلاب النظريات العلمية الاقتصادية مثل نظرية (تناقص المنفعة الحدية)، لكي يتعلم الطلاب أن الحصول على الشيء والاستمرار عليه يؤدي إلى الإشباع وبالتالي تناقص المنفعة منه.
البساطة الإرادية لا تعني الحرمان وعدم الاستمتاع بنعم الله ومظاهر الحياة ومباهجها. الله سبحانه وتعالى يُحب أن يرى نعمته على عباده، ولكنه لا يرضى الإسراف والتبذير والتمرد على النعمة. هذا هو الجوهر الحقيقي لتعليم الطلاب إرادة البساطة والتواضع والأخذ من الحياة الاحتياجات الأساسية لمقومات الحياة الكريمة.
والسؤال: كيف نعلم الأطفال ونربيهم على هذه القيم؟
البساطة الإرادية نجد صورها الملهمة من حياة الأثرياء العصاميين في بلادنا، الذين يتخلون عن مظاهر الغنى ويقبلون العيش بالقليل والبسيط رغم ثرواتهم الكبيرة. هذه هي الصورة الحية/ القدوة التي يجب أن يتعلمها الجيل الجديد، فالوصول إلى السعادة يتحقق عبره الأعمال الإنسانية والخيرية، وعبر الأعمال التطوعية. السعادة مصدرها الحقيقي (قوة العطاء)، وكبار الأثرياء السعداء الإيجابيين، في مذكراتهم وفي سيرتهم، يكشفون أن سعادتهم لم تأت من مظاهر الحياة المادية، بل مصدرها جهدهم وعطاؤهم في الأعمال الخيرية والإنسانية. يجب أن نُعلم الأطفال أن (البساطة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن) هي منبع الجمال. المسكن الصغير البسيط الأنيق يحقق السعادة أكثر من البيوت الفخمة والقصور. البيوت البسيطة تتدفق السعادة فيها من الأشياء الجميلة غير المكلفة، وجمالها مصدره روح أصحابه وروح التعايش داخله.
أخيرًا يقول ابن الجوزية: (كن في الدنيا كالنحلة، إن أكلت أكلت طيبًا، وإن أطعمت أطعمت طيبًا، وإن سقطت على شيء، لم تكسره ولم تخدشه). صورة للإنسان السعيد!