د.فوزية أبو خالد
قبل انقطاع عن الكتابة أحتاجه بشدة لعدة أسابيع لأتخلص من شحنات الفراغ ما بعد معرض الكتاب على أرض الرياض.. ولأتفرغ لقراءة بعض من حصاد كتب جنيتها بجنون شره هذا العام سأكتب في هذا المقال لقطات من بعض المشاهدات والملاحظات التي عشتها خلال تجربة وجودي بالمعرض أو أثناء تأملي للمشهد العام وتفكيري ببعض التفاصيل وربطها بالإطار العام.
لقطة أولى
مع أن جموح الشعر لم يسعفني لأحضر حفل افتتاح معرض الكتاب على ما بلغني لاحقاً عن خروج اللقاء على معهود البروتوكولات التقليدية بما لم يسمح لأي كان بسرقة أضواء المناسبة أو تسلق هالة الافتتاح من البطل المطلق للمعرض الذي لا يمثله إلا الكتاب وحده بلا منازع، فإنه لم يمض يوم أو اثنان من هذا العرس الثقافي المنشود بعد عام من عزلة الجائحة الجارحة دون أن تناديني واجهة الرياض ليختطفني نهر الحبر الخالد / نهر الكتاب على أرض الرياض.
بين كمين الكتب ومعراجها
معرض الكتاب خلق لي وربما للكثيرين غيري حالة من تجديد العلاقة بالذات.. وهيأ لعقد تحالفات أشد جرأة مع الآخر.. أهدانا معرض الكتاب حالة من الحب الجديد.. أعطانا أفقاً من المواعيد بما في مواعيد العشق من لهفة وبما في مواعيد المستقبل من أمل وتوجس..
فهناك مواعيد اللحظة الراهنة القلقة في التماس الأول بين العيون وبين ملمس الكتب الجديدة أو إعادة مصافحة كتب معتقة، وهناك مواعيد اللحظة المؤجلة لحظة الرهان لاستكناه الكتب.. فبعد الالتقاء المبدئي برائحة الكتب وبعد مشقة البحث بين أروقة الكتب وبعد معراج الرحلة المضنية الشيقة في تخير الكتب بحرية من مسبقاتنا أو في وفاء لميولنا وتخصصاتنا وسط صخب الآخرين الظمآى أرواحهم مثلنا لراح الكتب تنتهي اللحظة الراهنة وتأتي لحظة الرهان. يأوي كل منا لكمين الكتب الخاص به نلوذ بلذة الصمت في حضرة جلال الكتب، ندخل خلوة الكتب فارغين إلا من غوايتها، خائنين لكل ما يشغلنا عنها.. غير مخلصين إلا لسطوتها وأسئلتنا.
جدارية للميدانيين والحالمين بمعرض الكتاب
أولاً وثانياً وثالثاً تحية حب وكرامة لكل الشابات والشباب الوقوف من أول يوم بمعرض الكتاب لما بعد اللحظة الأخيرة.. الشباب المرابطون على مشارف المعارض وعند المداخل وبين المواقف لتنظيم المرور والحفاظ على أمن وسلامة مرتادي المعرض، الشباب الصامدون عند أبواب المعرض وفي قاعات الاستقبال بابتسامات لا تخبو وترحاب لا يكل، الشابات والشباب من المرشدين عند مفارق أروقة الكتب وعند منصات المعلومات بصبر لا يضيق بتكرار الاستفسارات. فسواء من عمل منهم تفاعلاً تطوعياً مع هذا اللقاء الثقافي أو من عمل بحكم الوظيفة فقد قدموا جميعاً بشكل سيمفوني متناغم وجهاً مشرفاً للشباب الوطني وللسلوك الحضاري في العلاقة بالثقافة وبجمهورها كُتاب وناشرين ومرتادين على قدم المساواة. وهذا لم يكن انطباعي وحدي بل سمعته من العديدين. وفي هذا أقترح أن تضم أسماءهم دون استثناء في قائمة شرف تكون أحد جداريات معرض الكتاب القادم وفاء بوفاء.. وأن يحظوا على تخفيض لا يقل عن 70 % على ما يختارون من كتب من أي دار نشر شاءوا.
ففي نظري أنه على أهمية عمل المضطلعين بدور الماسترو من التخطيتين والتنفيذيين الإداريين لهذا المعرض وجهودهم واجتهاداتهم لنجاح تجربة إقامة معرض الكتاب من اللمسة الأولى لسلام الختام متمثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة ووزارة الثقافة قاطبة، فإن النجاح التنظيمي بطبيعة الحال لا يقوم إلا بتكامل الجهد الاستشرافي والإشرافي مع الجهد الميداني للعاملين على الأرض وفي الاقتراب منهم والعمل معهم يداً بيد.
الحرية ورغيف الكتب
في معرض الكتاب
وفي هذا السياق من النظر لمعرض الكتاب كمنظومة واحدة أو كسمفونية جماعية ومتفردة في نفس الوقت تنظيمياً وحضوراً ثقافياً بالمعنى الحضاري لا يصح تجنب الإشارة إلى تلك العلاقة التواشجية في معارض الكتب، فلا يشغلنا الجانب التنظيمي لمعرض الكتب وحده على حيويته، عن شرط تحري المحتوى الثقافي غير الاستهلاكي وعدم الاستسلام لذلك النمط ولا التساهل مع مروجيه من دور النشر وتحري تحري تحري حرية الكُتب في تعدد مشاربها وأطيافها ومجالاتها من الفكر للسياسة ومن الشعر للسرد.. ومن اليمين لليسار.
ويبقى شرط غال آخر من شروط نجاح معارض الكتب بمقياس الناس عامة وعامة الناس مثلي ومثل عدد لا يستهان به من مرتادي معارض الكتب ومدمني رائحة الحبر والورق وهو شرط «معقولية» سعر الكتاب. وإن كانت «معقولية سعر» الكتاب نسبية بطبيعة الحال إلا أنه لا بد من وجود قوائم مسبقة بأسعار الكتب قبل المعرض بحيث تتطابق مع السعر المعلن لها في نقاط البيع الإلكتروني على الأقل ولا تزيد عنه بأضعاف كما كان الملاحظ في معرض الكتاب لهذا العام. فلا بد من معالجة التصور الذهني التنميطي أن معرض الكتاب بالرياض «دجاجة ذهبية» وما إليه من مواقف خاطئة من قبل بعض الناشرين، ولا أعمم، في قراءة الإقبال الكبير لمختلف شرائح المجتمع السعودي على معرض الكتاب قراءة ربحية بحتة.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فقد كان غريباً أن تُقابل لفتة وزارة الثقافة بإعفاء دور النشر من دفع إيجار مساحات عرض الكتب وتكلفة الشحن تقديراً لتأثير ظرف كوفيد 19 على الاقتصاد بتلك الأسعار المرتفعة لبيع الكتب وكلما احتج المبتاع على البائع من المبالغة في السعر بادر الأخير بالقول إنها ليست مشكلة ارتفاع سعر الكتاب بل «مشكلة ارتفاع نسبة الضريبة».. وكان يمكن للوزارة أن تعطي منحة إعفاء دور النشر من التكلفة بمقابل تخفيضي ولو صغير.
الوقوف على الآراء النقدية
في معرض الكتاب
كما قلتُ في مقال الأسبوع الماضي الذي نذرته أيضاً لموضوع معرض الكتاب هناك وقفات نقدية عندي وبالتأكيد عند سواي يمكن للمسؤولين تحريها عبر الاتصال المباشر أو من خلال مسوح الرأي سواء من المرتادين عامة أو من بعض المشتغلين بقضايا الرأي العام ومنها موضوع هام كمعارض الكُتب بحمولتها الرمزية والعينية في الميزان الحضاري للمجتمعات.
وفي هذا السياق أنوه بقراءة التحليل الإحصائي والاجتماعي الهام الذي قام به د. عبدالسلام الوائل كمثقف عضوي لم يكلفه أحد إلا ضميره المهني والوطني كنوع من دراسة استطلاع الرأي حول سلوكيات القراءة لدى السعوديين.
ولعل الوزارة تبادر إلى عقد حلقات نقدية تراجع تظاهرة الكتب وسواها من مفردات المشهد الثقافي بجانب العمل على توفير أرضية لتقديم بحوث تقرأ مشهد معرض الكتاب والمشهد الثقافي عموماً بعين موضوعية حرة متمكنة معرفياً ومخلصة وطنياً بالتعاون مع جهات بحثية أو بتعاون أفراد متخصصين ومتفرغين يملكون الخبرة والمنهج ولم يعدوا يملكون عملاً. فمثل هذه الحلقات النقدية والبحوث والدراسات المشتقة من المعايشة الميدانية مقرونة بالخيال الاجتماعي تساعد على صنع السياسات ووضع الإستراتيجيات بشكل أقرب لنا مما قد تقدمه استشارة الشركات العابرة للقارات.
*****
وليس أخيرًا ملاحظة ليست عابرة وهي أنه لا بد أن يؤخذ في عين الاعتبار في الفعاليات الثقافية في تخطيطها والإعداد لها والعمل عليها التجايل التجاربي والعمري والمناطقي وتنوعات النسيج المجتمعي الأخرى بحيث تضم منابر اللقاءات الثقافية بأنواعها ويضم ظهيرها التخطيطي تمثيلاً للأطياف سواء من مشاركي الداخل أو الخارج.. فعلى سبيل المثال كان يمكن ترتيب أمسية الشاعرين الكبيرين عبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي لتضم أكثر من جيل وتنوع في النوع الاجتماعي بدل أن يضاف اسم الشاعرة روضة الحاج في آخر لحظة بما بدا استدراك لاحق لغياب الشاعرات عن هذه الأمسية وليس رؤية متكاملة، وبالمثل يقال عن أمسيات الشباب الشعرية وورش العمل. وأيضاً نفس الشيء يذكر عن ضرورة الانتباه مقدماً عند إعداد برامج الفعاليات لمعرض الكتاب (القادم بإذن الله) إلى عمل شراكات منبرية مع جمعيات الثقافة والأدب الأهلية على جدتها المجتمعية مثل جمعية الفلسفة، جمعية الأدب المقارن، الحلقة النقدية، نادي الكتاب الخ... ويا حبذا الحرص في الفعاليات (القادمة) على إدخال التناول النقدي ومناقشة الكتُب شديدة الأصداء أو حتى خافتة الأضواء من إصدارات العام المعني أو الأعوام القريبة منه.. فقد كان ملفتاً غياب فعاليات عن عدة كتب ملفتة من كتب 2020 2019 و2021 ومنها كتاب الروائي حسين على حسين بعنوانه الشجني وجوه الحوش والذي فاز بجائزة خليجية، وكذلك كتاب الدراسة النقدية إشكالية الذات الساردة... لأسماء الأحمدي ومثل هذا القول ينطبق على كتب أخرى من صادرات عتم على بعضها عام العزلة المطبقة لجائحة كوفيد 19 ولكنها ظلت تحاول أن ترسل لنا خيوطاً ضوئية رهيفة يبدو أنها أفلتت سهواً من انتباه معدي معرض الكتاب بالرياض 2021م.
على وعد بتجدد اللقاء
مساء الأحد 10/ 10/ 2021 بقيت في معرض الكتاب بواجهة الرياض لآخر قطرة حبر، كان عملاً جميلاً متموجاً متوجاً بالجهد والاجتهاد بكل ما في الجهد من نشوة العمل وبكل ما في الاجتهاد من معنى التجريب والمحاولة والاستكشاف والهفوات والجروح الصغيرة والدروس الكبيرة لفقه التعلم بالاجتهاد... فتهنئة حارة للزملاء على تجربة أولى وليست أخيرة نحو عمل جمعي متفرد.