د.محمد شومان
بالنظر إلى مركزية اللغة في الصحافة والاعلام، فقد اهتم باحثو الصحافة والإعلام منذ فترة طويلة بمحاولة فهم كيفية استخدامها في بناء المعنى، وفي هذا السياق ظهرت مدارس وتقاليد بحثية اجتهدت في دراسة التأثيرات المتبادلة بين الخطاب والصحافة والاعلام، أهمها مجموعة بحث وسائل الإعلام بجامعة جلاسكو Glasgow University Media Group ومركز برمنغهام للدراسات الثقافية المعاصرة، حيث قدموا أعمالًا تفسيرية مهمة حول تمثيلات وسائل الإعلام للقضايا الاجتماعية منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وأجرى هارتلي وهودج وكريس وكريس وفان ليوين وفاولر وآخرون في الثمانينات تحليلات كاشفة لأنواع مختلفة من الرسائل الإعلامية، ركزت على الجوانب اللغوية للغة الأخبار ، مثل التغيير فى بناء الجملة، والبنية المعجمية، والطريقة وأفعال الكلام.
فعلى سبيل المثال عندما يقال اضرمت النيران في مزارع المستوطنين الاسرائيليين بالقرب من الحدود مع غزة، تختلف تماماً عن اضرم الفلسطينيون النار في مزارع المستوطنين، كما تختلف نفس العبارة عندما تكتب أضرم بعض الفلسطينين النار.. أو أضرم إرهابيون فلسطينيون، أو أضرمت حماس النار.. هكذا تختلف الصياغات والأفعال المستخدمة والتوصيفات وتمنح كل منها معاني ودلالات مختلفة، تتفاعل مع متلقي الرسالة الإعلامية بحسب موقفه وتحزباته الإيديولوجية وموقفه من الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي.
في هذا الإطار، تطورت دراسات التحليل النقدي للخطاب نحو التركيز على التأثير المتبادل بين الإعلام واللغة، والإعلام والصور بمختلف أنواعها، وكيفية وتمثيل وسائل الإعلام – بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي - للخطابات المتداولة في المجتمع، بمعنى أن خطابات الإعلام هي امتداد وانعكاس للخطابات المتنافسة في المجتمع، تساهم فيها وتؤثر وتتأثر بها، فالأخبار ومواد الرأي وكافة أشكال المحتوى الإعلامي تعتبر خطابات لا تقدم الواقع بدقة وموضوعية، وإنما تعكس وجهات نظر ومصالح ومواقف إيديولوجية وتحيزات، تعمل في الغالب لخدمة النخب المهيمنة، فالأخبار هي وجهات نظر رسمية للعالم، ووسائل الإعلام لها إيديولوجيات محددة تسعى بطرق مباشرة أو غير مباشرة لفرضها على الجمهور. وفي هذا السياق تبرز ثلاثة محاور أساسية مترابطة، الأول يتعلق بتمثيل الخطابات الإعلامية للواقع وللهويات الاجتماعية، والثاني الوساطة أو التوسط بين تلك الخطابات والواقع، أما الثالث فهو دور وسائل الإعلام في تأطير الأخبار والأحداث والآراء بشكل محدد لتحقيق أهداف محددة.
ولتوضيح ذلك يمكن فهم عملية التمثيل والوساطة والتأطير من خلال استخدام الأفعال والصور في مواقف اجتماعية مختلفة، فهناك أفعال تقريرية محايدة، وأفعال تفسيرية، وأفعال وصفية، وأفعال النسخ والاقتباس من الأفعال، ويمكن على سبيل المثال أن نرى هذا التأثير في تقرير صحفي عن مشكلات مجتمع الأقليات في الجملتين التاليتين «الأولى: صرخ قادة مجتمع الأقليات بأنهم عانوا من مستويات متزايدة من سوء المعاملة»، أما الجملة الثانية فهي «يقول قادة مجتمع الأقليات إنهم عانوا من مستويات متزايدة من سوء المعاملة». في الحالة الثانية يبدو القادة معتدلين ومسيطرين ومسؤولين من خلال استخدام فعل هيكلي محايد «يقول». بينما كان استخدام الفعل الوصفي «يصرخ» أو صاح في الجملة الأولى، يجعلهم يبدون عاطفيين وربما يمثلون تهديدًا. وفي نفس التقرير يمكن كتابة عبارة ثالثة «ادعى قادة مجتمع الأقليات أنهم عانوا من مستويات متزايدة من الإساءة». وبالطبع الادعاءات ليست واقعية ولكن يمكن الطعن فيها واستخدام هذه الكلمة يثير الشك. مما يقدم نوعًا مختلفًا من التمثيل.. لكن إذا استخدمنا فعل «أوضح» قادة مجتمع الأقليات سيتغير المعنى لتقليل عدم اليقين.
وإذا أضفنا الصور والفيديوهات إلى النصوص الصحفية فإنها قد تضيف معاني أو تتعارض معها أو تؤكدها لأن الصحف ومواقع الانترنت تمتلك عادة مجموعة من الصور المخزنة للممثلين الاجتماعيين البارزين ( السياسيون على سبيل المثال)، والتي يمكن للصحف استخدامها اعتمادًا على ما إذا كانوا يرغبون في تقديمها على أنهم واثقون من أنفسهم، أو مهزومون، أو غير واثقين، وغيرها من الصور، وقد تنشر الصور عند التقاطها في لحظة ترتبط بقصة أو تقرير محدد، وربما لا يكون هناك أي ارتباط. ومع ذلك فلا يزال هناك مسألة اختيار صورة محددة بالذات، أو لقطات فيديو ونشرها في إطار معين. وبطبيعة الحال يمكن توسيع إطار ونوعية التحليل ليشمل التقاير الإخبارية المصورة والأفلام والإعلانات والمشاركات والتفاعلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجب الاهتمام بنوعية اللقطات واتجاه نظر الفاعلين الاجتماعيين والألوان والحركة والمشاهد والإيماءات والأيقونات والرسوم والقرب والتلامس وغيرها.
** **
- عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية بمصر