الجزيرة الثقافية - جابر محمد مدخلي:
اللحظات التي يبعثها الموت إلينا هي حالة استنفار تحرّك فينا كل ما تبقى، وحالة ارتباك لكل ما سيبقى بعد هذه اللحظة. هكذا حدثت لحظة إعلان موت الأديب عبدالله بن إدريس.. كل شيء استسلم للخبر: القصائد والقوافي التي كتبها، العناوين التي أرسى قواعدها في إصداراته.. كل شيء كان يوحي لنا في مشهدنا الثقافي بالاستعداد لفقدان أحد رموزه.. ومع هذا موته جاء كالفاجعة التي لم تستطع إلهام أحدٍ عبارات العزاء فيه، ولا كلمات الوفاء إليه؛ فمهما كُتِب عنه نراه تقصيرًا أو عدم مقدرةٍ في وصف مسيرته وتوصيفها.
وأمام هذه اللحظات تتقدم الثقافية ببالغ العزاء لمشهدنا الثقافي بفقيده ابن إدريس، ولعائلته، ساعية بعد ساعات من خبر وفاته لاستعادته على صفحات الجزيرة التي طالما خطّ عليها حروفه، ونقش مشاعره، وحفره لتعيدنا اليوم إليها برائحة الإبداع، وسماكة البقاء، وقوة التأثير.
لقد ظلّ الأديب ابن إدريس منذ بداياته محاطًا بنجد مكانًا وهمًّا وشعرًا وإحساسًا ولعل إصداره لكتابه «شعراء نجد المعاصرون» في عمر الثلاثين جعل أمامه مهمة تراتبية فيما دفع به لكتابة هذا الكتاب الثمين كشفها حوار أجرته الجزيرة معه قال فيه حول هذا المُنجز:
«لاشك أن فترة شبابي التي ألفت فيها كتابي الأول شعراء نجد المعاصرون وهو أول كتاب من نوعه صدر في نجد في العصر الحديث، حيث لم يسبقني أحد إلى مثله والذين ألفوا في هذا الموضوع جاءوا بعدي بزمن طويل واعتمدوا كتابي كأول مرجع لهم ولا زال الأمر كذلك حتى اليوم ولأن الشباب غالباً يحمل حماساً قد يصل الى الرعونة فيندفع في توجهه أكثر مما ينبغي, جاءت تلك العبارات وعبارات أخرى غيرها, ولو كنت أؤلف الكتاب اليوم لما أوردتها بعد أن خبت جذوة الشباب في وتلاشت غلواؤها, وكل عمل سواء كان أدبياً أم غيره لابد أن تقع فيه الأخطاء أو بعض المآخذ عليه فكيف به إذا كان إبداعاً من غير مثال سابق له وكاتبه شاب طموح متحمس؟ وحسب المرء أن تعد معائبه أو أخطاؤه، وأنا لا تنقصني الشجاعة في أن أعترف بأن في الكتاب عبارات ما كان ينبغي أن أقولها أو أكتبها, لكنني في ذلك الزمن كنت متأثراً بقراءتي الكثيرة للمترجمات من الآداب الأجنبية وخاصة منها الأدب الفرنسي الذي كنت شغوفاً بقراءته، وشيء من الأدب الإنجليزي والأوروبي عامة, فقراءتي لتلك الترجمات أوجدت عندي تجاوباً مهماً يدفعه حماس الشباب المتطلع إلى التطور النهوضي الحضاري لبلادي والذي تحقق الكثير منه بحمد الله في واقع حياتنا اليوم، وهذا أحد الدوافع لمثل تلك العبارات التي تسأل عنها.»
ومن عظيم الشجاعة الأدبية هي أن تقترح عنوانًا لا محلّ له في حياتك، ثم تمضي لتعيش أكثر من تسعة عقود تطارد فيه أحلامك، وتسعى فيه لتحقيق ذاتك وتمطر من قوافي الحياة، قوافيك شعرًا وشعورًا.
وعن مسيرة هذا الرمز نقف أمام ما قاله رفاق مرحلته عنه فيما نشر عنه في صفحات الجزيرة نقلاً عنهم إذ قال عنه الأستاذ محمد بن أحمد الشدي رحمه الله: «ما من شك ان الأديب عبدالله بن إدريس كانت له جهود مميزة توزعت بين الكتابة الشعرية، والصحافة والعمل الوظيفي، وكذلك رئاسته للنادي الأدبي بالرياض.. فهذا الرجل يستحق التكريم والوفاء لأنه مثال للأديب الجديد والشاعر الملتزم.. لقد تواصلت جهود «ابن ادريس» الشعرية والثقافية وأثمرت بعض الدواوين والمؤلفات، فكانت تتنازع هذه التجربة تيارات هي الحس الوطني والنزعة العاطفية والتصوير الانساني للعديد من المواقف الانسانية؛ فلم تخرج هذه التجربة عن هذا الاطار.. وللشيخ ابن ادريس جهوده العملية، واسهاماته الثقافية والأدبية التي يجدر بنا الاشارة لها، والاشادة بها من أجل أن يتعرف القارئ على هذه الجهود والاسهامات التي قام بها وتفاعل معها حتى كونت تجربته المميزة في المجال الثقافي والأدبي.
ولا ننسى تجربته المميزة في مجلة الدعوة التي تواصلت لعدة أعوام فكانت هذه التجربة فريدة استطاع من خلالها ابن ادريس أن يصوغ ومن خلال تكوينه الشعري والأدبي هذا الجهد الصحفي فيبرع في تقديم المادة الصحفية التي كان يوائم فيها بين طروحاته كأديب وشاعر وبين رؤيته في مجال العمل الصحفي حتى تكونت هذه التجربة المخلصة.
وجاء تكريم النادي الأدبي بالرياض للشيخ عبدالله بن ادريس بمثابة تكريم للثقافة والمثقفين.. فقد أبلى هذا الرجل البلاء الحسن في مجال خدمة النادي الأدبي واستطاع وعلى مدى عقدين من الزمان أن يصوغ هذا العطاء الثقافي والانساني لتتشكل هذه الإضمامة النابهة التي يفخر المثقف والأديب بها.. فهو أهل لأن يكرم نظير جهوده وعطاءاته المثمرة».
وأما الشاعر الأستاذ سعد البواردي فقد صرّح عنه بذات العدد الذي قدّمته الثقافية عن لحظات تكريمه «حبيبنا الشاعر والأديب عبدالله بن ادريس هو أحد هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم مسؤولية الكلمة منذ عقود، فبالنسبة إلي أرى أن ابن ادريس رفيق درب التقيناه زميلاً على صفحات اليمامة، والتقيناه زميلاً في رواق وزارة المعارف.. وأطيب ما في هذا الرجل وهي خصوصية تكاد تكون نادرة تتمثل في أنه يحمل قلباً له شفافية ويحمل حباً له رواق عريق يتسع للآخرين.
هو أديب وشاعر استطاع أن يملأ فراغاً كانت بلادنا بحاجة إليه.. خدم الشعر العربي المعاصر من خلال مؤلفه «شعراء نجد المعاصرون» وهو في تقديري خميرة جديدة استطاعت أن تفرز رغيفاً شهياً خدمة لهذه الأفواه الجائعة.. تلك التي كانت تبحث عن لقمة فكرية مناسبة».
* * *
وتستعيد الثقافية اليوم ما نشرته الجزيرة عنه تحت عنوان: «ابن إدريس في مرآة الأدباء والمثقفين»
قالوا عنه:
أبوتراب الظاهري: «الأستاذ عبدالله بن ادريس.. واحد من فرسان الكلمة شعراً ونثراً.. وهو من الأدباد العرب القلائل الموسوعيين الذين يجمعون بامتياز بين العلوم الدينية والشرعية والمعارف الأدبية، وهو من أنصار الأدب العربي الناصع تراثاً ومعاصرة.» فيما قال عنه وزير الثقافة اليمني السابق الدكتور عبدالعزيز المقالح في جريدة «26» سبتمبر: «أعرف الشيخ عبدالله «منذ خمسين حجة»، وقد عرف بالدأب في مخادنة الكتاب والصحيفة والقلم ومجالس العلماء».
كما قال عنه الأديب الراحل عبدالفتاح أبو مدين في صحيفة الرياض «14 ذي الحجة 1411هـ»: «يوم لقيته في الرياض، لقيت فيه الأديب في أصالته، الذي سرعان ما يرفع التكلف بينه وبين محدثه، حين يطمئن إليه، وتنشر في نفسه إلى حديثه، ويجد عنده التبسط وحسن الاصغاء، وقد لمست في حديث المنثور خيالات شاعر مطبوع».
عزيز ضياء- الاثنينية »الجزء التاسع» - ص 22- : «عبدالله بن ادريس يبدو في شعره شديد التأثر بشعراء العرب في المهاجر الأمريكية في محاولات تجديدية، مع محافظته على القوالب المتوارثة في نظم الشعر، وهو شاعر وطني في موضوعاته التي يلتهب فيها حماساً للقضايا العربية القومية الكبرى التي عاصرها، مثل قضايا التحرير والاستقلال.
* * *
ولعلنا نختم بمن قالوا عنه بالقاص الأستاذ محمد علوان، إذ قال عنه بصحيفة الرياض في (12 جمادى الآخرة 1414هـ): «ابن ادريس له الفضل الأول في إظهار أدبنا السعودي خارج حدود الجزيرة العربية، ولاسيما الأدب في نجد، فهو الذي انتزع اعترافاً من عبقري العربية عباس محمود العقاد بقيمة الأدب السعودي.. وهو الذي وضع الكيان المتكامل لهيكل أدبنا بين النقاد العرب.. وما زال نبضه الأدبي ثراً ينهل الوارد من معينه، ويتزود الركبان من نتاجه.. وهو إذا أدلى في قضية من قضايا أدبنا الحديث صاحب رأي صائب وقول فصل.
بين شعراء المملكة.. يقف عبدالله بن إدريس، شاعراً وناثراً في موقع الصدارة، لما يتميز به شعره من جزالة، ولما يتميز به نثره، وخاصة دراساته من موضوعية وإلمام.
وهو في شعره، إلى جانب أموره الوجدانية، يصدر عن اهتمام خاص بقضايا شعبه وأمته.»
* * *
أعطيت يا ابن إدريس عطاء من سيبقى بيننا، ودوّنت تدوين من سيُبقيه لنا.. وطبتَ حيًا وميتًا.