د. عيد بن مسعود الجهني
الدول الفتية أو (القوية) بالمفهوم العسكري والإستراتيجي والاقتصادي والتكنولوجي ..الخ لو دققنا النظر لوجدناها غنية بعنصرها البشري الذي يدير دفة مواردها الطبيعية من نفط وغاز وثروات معدنية وصناعية وتبادل تجاري واقتصادي واستثماري بل وتحقيق كل ما تهدف إليه سياسة الدول على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي.
وعلى العكس من ذلك فإن الدولة أي (دولة) تمتلك كل الثروات لكنها تفقد عوامل إعداد وتكوين وتدريب وتثقيف العنصر البشري لخدمة الوطن ومواطنيه تكون بذلك قد تأخرت عن ركب التقدم والتطور في هذا العالم الذي يشهد كل يوم تطورات وأساليب حديثة في علوم التطور والتقدم.
والمملكة واحدة من الدول التي أخذت بناصية التطور المتسارع منذ أول خطة تنموية في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، وكان رقمها متواضعا (70) مليار ريال، واليوم تسجل الأرقام تريليونات في ميزانيتها وخططها التنموية.
وجاءت رؤية 2020 - 2030 لتطوي تلك الخطط في إستراتيجية تاريخية تنقل اقتصاد الدولة إلى مستقبل أفضل بإرادة الله.
التعليم كان وما زال يحظى بدعم الدولة القوي لخلق عنصر بشري كفؤ قادر على العطاء باعتبار الإنسان هو العمود الفقري لأي تقدم وتطور.
الدولة أنفقت مبالغ فلكية على هذا القطاع المهم الذي أصبح تحت مظلة واحدة من تعليم عام وعال.
تعليم على حساب الدولة في الداخل وأفواج عديدة من المبتعثين في الداخل والخارج.
وكل من أنهى تخصصه الدراسي وعاد إلى الوطن وجد وظيفة تنتظره، استمر فيها حتى جاء دوره في التقاعد لينضم إلى من سبقه في تلك القائمة الطويلة.
هؤلاء المتقاعدون في معظمهم متسلحون بمؤهلات وخبرات تراكمت مع مرور السنين، من خلال وظائفهم المختلفة سواء منها القيادية مدنية أو عسكرية أو ما دونها، وبذلك فهم تسلحوا بفكر الدراية والقدرة على التعامل بنمط متسع وروح خلاقة في العمل.
هذه الخبرات المتراكمة، والتفرد في العطاء والتميز في الأداء من المهم الاستفادة منها وهم جيل عطاء وتجارب وخبرات ومؤهلات في معظمها نادرة في دولة تفتح الأبواب مشرعة لكل صاحب فكر خلاق وخبرة متميزة وتجارب طويلة لمعالجة أعتى العوائق الإدارية والمالية.
وبهذا فإنهم (المتقاعدون) ثروة وطنية في بلاد الحرمين الشريفين.
أكتب هذه الأسطر بعد أن استمعت إلى العديد من هذه الثروات.
أستاذ طب ابتعثته الدولة وعاد ليكون بارزًا في مجال تخصصه النادر.
صدر قرار تقاعده وعلى الفور استضافه مستشفى خاص من الحجم الكبير.
قال كنت وأنا على رأس العمل إلى جانب المحاضرات يراجع عيادتي كل شهر (150) مريضا منهم (90) حالة قديمة.
وفي المستشفى الخاص زاد العدد الشهري إلى (1500) حالة.
وزميل آخر لهذا الطبيب جاء دوره ليصبح ضمن قائمة المتقاعدين.
تقدم لجامعة حكومية لأنه قادر على أن يقدم الكثير في مجال تخصصه.
لكن تلك الجامعة رفضت طلبه تطبيقا لنظام التقاعد وعلى الفور احتضنته جامعة في إحدى دول الجوار الشقيقة.
ومثل هذين الطبيبين كثر بعد تقاعدهم انضموا إلى مستشفيات قامت على أكتافهم.
لنأخذ أمثلة تطبقها دول أخرى ومنها ألمانيا أكبر اقتصادات الاتحاد الأوروبي، ولأهمية المتقاعدين أنشأت (هيئة الخبراء المتقاعدين الألمان) أعادت تعيين أكثر من (5) آلاف خبير كمستشارين في القطاع العام والخاص.
وفي دولة كأمريكا التي توجد عسكريًا في كل أركان الكرة الأرضية نجد أن الذين تبلغ أعمارهم ما بين الـ50 و60 حتى الذين بلغوا ما بين 70 - 80 هم أكثر إنتاجية في الأداء.
بل إنهم في معظم الأحوال مديرون تنفيذيون لشركات كبرى من تلك الـ500 شركة الأكبر في العالم.
وإذا لم يفوزوا بالمنصب الأعلى في تلك الشركات فإنهم مشاركون كأعضاء في مجالس الإدارة.
إذا في الدول المتقدمة التي تطبق الإدارة الحديثة بأهدافها ونتائجها، نجد أن الصفوة التي تدير أو تشارك في دفع عجلة الإدارة في القطاعين العام والخاص في مقدمتهم الذين نعتبرهم في ديارنا العربية أنهم بلغوا سن التقاعد.
هذا معلن في دول الغرب والشرق المتقدمة في العنصر البشري بمشاركة كبار السن أصحاب الخبرة النادرة والمؤهلات العلمية في جميع المجالات، وهم متخصصون بإنتاجية علمية في أدائهم لعملهم متسلحين بخبرتهم وسيرهم الذاتية.
إنهم (المتقاعدون) الذين ما زال لديهم الكثير بإمكانهم تقديمه في شتى المجالات ومنها الاستشارات الإدارية والمالية والاقتصادية والتنمية، وإعداد التقارير والمشاركة في صياغة الأنظمة والقوانين واللوائح، والمشاركة في إعداد البحوث العلمية، وإلقاء المحاضرات كل في تخصصه ..الخ.
الاستفادة من هذه الإمكانات ضرورة خاصة أولئك الذين تقاعدوا مبكرًا ويتمتعون بطاقات عالية وقدرات على البذل والعطاء لدعم مشروعات القطاعين العام والخاص والتنمية المستدامة.
وإذا اعتبرنا أن التقاعد بداية جديدة لمرحلة عطاء وإبداع وامتداد للنشاط الذي بدأه المتقاعد في مسيرته الوظيفية لقلنا إنه من المهم إعادة النظر في تكييف وتفسير مفهوم التقاعد لبعض التخصصات.
فمثلا الطبيب وزميله اللذين غادرا عملهم بقرار تقاعد وكسبتهم جهات أخرى، والدولة هي التي أنفقت المال الكثير على تعليمهم الداخلي والخارجي.
لماذا تترك هذه الخبرات النادرة ليستفيد منها الغير.
وفي التجديد لهم ميزة استمرارهم، وإذا كان في ذلك عقبة إدارية فإن التعاقد معهم بعقد ميزة أخرى، ومثل هؤلاء أعداد كثيرة.
ولأن قوانين وأنظمة الدول العربية في معظمها تقنن سن التقاعد عند 65 عامًا، ناهيك على التشجيع على التقاعد في سن مبكرة في الوظائف المدنية والعسكرية إضافة إلى سياسة الشبك الذهبي الذي تلجأ إليه بعض الشركات المساهمة التي طبقت الخصخصة.
وهذا فيه خسارة لجهة الإدارة في القطاع العام، وللشركات في القطاع الخاص.
ولأن القوانين والأنظمة ليست أمراً حتمياً لا يمكن تعديله أو حذفه أو حتى سن قانون جديد.
لذا لعل الدول تعيد النظر في تعديل القوانين لكسب هؤلاء أصحاب الإنتاجية العالية والخبرات المتميزة والسير الذاتية العطرة.
ويصبح من الضروري إعداد قائمة بيانات عن أعدادهم وتخصصاتهم.
وهذا من واجبات المؤسسة العامة للتقاعد التي من المهم رفعها إلى هيئة وإعادة هيكلتها وصندوق التقاعد لترتقيان في أدائها خدمة للمتقاعدين الذين هم بالفعل ثروة وطنية.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة